مع رحيل محسن إبراهيم، أمس، فقد اليسار العربي أحد قادته البارزين الذين لعبوا دوراً مهماً خلال المواجهات والمعارك الكبرى التي شهدتها المنطقة في ستينيات القرن العشرين وسبعينياته وبداية ثمانينياته. انضم أبو خالد، كما سمّاه رفاقه وأصدقاؤه، إلى حركة القوميين العرب في الخمسينيات، وكان ناصرياً متحمّساً على غرار بقية رفاقه في الحركة، الذين رأوا في مصر «الإقليم - القاعدة» المؤهل لقيادة نضال الجماهير العربية من أجل التحرير والوحدة والاشتراكية. وقد احتلت مصر بالفعل هذا الموقع طوال عقدي الخمسينيات والستينيات، ولعبت دوراً حاسماً في دعم ثورات التحرر الوطني في جميع أقطار الأمة العربية، وكان لها مساهمة حاسمة في انتصار الثورة الجزائرية وفي تحرير اليمن وفي دعم النضال الفلسطيني. في الحقبة التاريخية نفسها، نجحت أحزاب شيوعية وحركات ماركسية في إنجاز مهام التحرر الوطني عبر طرد المستعمرين من بلدانها، وإسقاط أنظمتهم العميلة والرجعية في الصين وكوبا وفيتنام. دفعت هذه الانتصارات إبراهيم وتياراً كاملاً داخل حركة القوميين العرب الى مراجعة موقفهم من الماركسية التي اعتبروها سابقاً أيديولوجيا مستوردة وغير ملائمة للواقع العربي، أساساً بسبب موقف أحزاب شيوعية المعادي لقضية فلسطين، وللوحدة العربية، نتيجة تبعيتها الشديدة لموسكو آنذاك. وللإنصاف، فإن هناك قادة وأجنحة في هذه الأحزاب عارضوا الموقف السوفياتي المؤيد لإنشاء الكيان الصهيوني والمعارض للوحدة العربية، لكن هؤلاء لم يتمكنوا من تغيير الموقف الرسمي لأحزابهم. تبنّى إبراهيم، ومعه نايف حواتمة وعبد الفتاح إسماعيل، الماركسية مبكراً واختلفوا مع قيادة القوميين العرب. وأتت هزيمة مصر الناصرية في حزيران 1967 لتدفعهم إلى تقديم نقد حاد لما اعتبروه قيادة أنظمة البورجوازية الصغيرة لحركة التحرر الوطني والدعوة الى تشكيل قيادة «بروليتارية ثورية» مسلحة بنظرية علمية، أي الماركسية، لخوض الصراع مع الأعداء القوميين والطبقيين حتى الانتصار الحاسم، على غرار تجارب التحرر الوطني المشار اليها سالفاً. وقد رأى أحد قادة حركة القوميين العرب، الشهيد باسل الكبيسي، الذي اغتاله الموساد في باريس سنة 1973، أن التحول نحو الماركسية من قبل هذا التيار في الحركة، في السياق التاريخي الدي تم فيه، هو «جواب أيديولوجي على إشكالية سياسية». المهم أن محسن إبراهيم أنشأ عام 1968 منظمة الاشتراكيين اللبنانيين، واندمج مع مجموعة لبنان الاشتراكي، ليؤسّسا معاً منظمة العمل الشيوعي في 1970. بعدها، شارك إبراهيم، الذي جمعته علاقة وطيدة مع نايف حواتمة، الأمين العام للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، ومع ياسر عرفات، قائد حركة فتح، في بناء الحركة الوطنية اللبنانية الى جانب أحزاب تقدمية ويسارية أخرى، كالحزب الشيوعي اللبناني والحزب التقدمي الاشتراكي والحزب السوري القومي وحزب البعث. كان إبراهيم حليفاً وثيقاً للمقاومة الفلسطينية طوال وجودها على الساحة اللبنانية، وخاض الى جانبها جميع المواجهات التي فرضت عليها خلال الحرب الأهلية. وتصدى مناضلو المنظمة الى جانب رفاق السلاح الفلسطينيين واللبنانيين للاجتياحين الاسرائيليين في 1978 و1982. وعند اجتياح بيروت من قبل الجيش الصهيوني في أيلول 1982، أطلق إبراهيم مع الشهيد جورج حاوي، الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني، ومع حزب العمل الاشتراكي العربي، جبهةَ المقاومة الوطنية اللبنانية التي كان لها باع طويل في العمليات التي شنّت ضد قوات الاحتلال والعملاء في بيروت والجبل والجنوب خلال الثمانينيات. بعد نهاية الحرب الأهلية، قدم إبراهيم نقداً ذاتياً لمشاركة اليسار فيها، أثار نقاشاً كبيراً في أوساطه. وعلى الرغم من التحولات الفكرية والسياسية التي طرأت على مواقفه في العقدين الماضيين، فإن محسن إبراهيم بقي من المدافعين عن الإصلاح السياسي والاقتصادي - الاجتماعي في لبنان وعن حقوق جماهير شعبه الأساسية.