تضافرت الجهود الأمنية والقضائية بأوامر سياسية لإقفال ملف التحقيق بالتلاعب الذي أدى إلى تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية وملف سحب الدولار من السوق وشرائه بأموال المودعين لشحنه إلى الخارج، عندما شارفت التحقيقات على النيل من رؤوس كبيرة. المعلومات تكشف أنّ قراراً سياسياً اتُّخِذ بوقف التحقيقات في هذا الملف على اعتبار أنّه «يؤذي سمعة المصرف المركزي وباقي المصارف». اتّصل ضباط كبار وقضاة طالبين وقف التحقيقات وختم الملف لإيداعه النيابة العامة المالية. كذلك طُلِب وقف عمليات الدهم في هذا الملف. هذا السيناريو تؤكده مصادر أمنية وقضائية لـ«الأخبار»، متحدثة عن توجّه لـ«تنييم الملف في الإعلام قبل دفنه». وفي المقابل، تؤكد مصادر قضائية أنّ الملف لا يزال يسير في الاتجاه الصحيح مع بعض العرقلة جرّاء الوساطات المبذولة. وتستشهد على ذلك بادعاء النيابة العامة على الموقوفين بجرم المسّ بهيبة الدولة المالية وتبييض الأموال ومخالفة قانون الصيرفة، على الرغم أنّ من بين الصرّافين الموقوفين زوج قاضية جرى إطلاق سراحه أيضاً جرّاء وساطات بُذِلت.«الأخبار» حصلت على محاضر التحقيقات في هذا الملف، فتبيّن أن مدير العمليات النقدية في المصرف المركزي مازن حمدان كان يُعلِم حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بمعظم التفاصيل المتعلّقة بعمليات بيع الدولار وشرائه. حتى إنّ حمدان ذكر للمحققين أنّ سلامة هو من اقترح عليه أسماء ثلاثة صرّافين للتعامل معهم. كذلك بيّنت التحقيقات أنّ حمدان باع الدولار لصرّافين من فئة «ب» بشكل مخالف للقانون، لكنه أخبر الحاكم عن هذه الواقعة من دون أن يُبدي الأخير اعتراضاً. وورد جلياً في متن محضر التحقيقات ارتكاب حمدان لمخالفات إدارية لجهة مخالفة قانون النقد التي يعاقبه عليها المصرف المركزي إدارياً. إضافة إلى مخالفات جزائية جراء مخالفته قانون الصيرفة، علماً بأنّ قاضي التحقيق الأول بالإنابة شربل أبو سمرا أخلى سبيله بكفالة كبيرة قدرها ٣٠٠ مليون ليرة لتقديره ربما لحجم الجرم المشتبه في ارتكابه، إلا أنّ النيابة العامة المالية استأنفت القرار. وعلمت «الأخبار» أنّ الهيئة الاتهامية ستتخذ قرارها اليوم بشأن الموافقة على قرار إخلاء السبيل أو فسخه.
وبحسب محاضر التحقيق، أجرت النيابة العامة المالية «مواجهة» بين حمدان وسلامة. لكن التدقيق في المحاضر يُظهر ثغرة كبيرة تتعلّق بالفارق بين تاريخ المقابلة بين سلامة وحمدان، وتاريخ استجواب حمدان. إذ إنّ المواجهة بين الرجلين أُجريت قبل استجواب حمدان! فيما المتعارف حصول الاستجواب والاستماع إلى المدعى عليه قبل مواجهته لدحض إفادته. وبحسب المحاضر المدوّنة، فقد حضر سلامة أمام القاضي ابراهيم بتاريخ ١٥ أيار لتحصل المواجهة بين الرجلين، إلا أنّ استجواب حمدان حصل بعد ثلاثة أيام أي في ١٨ أيار.
كذلك بيّنت التحقيقات التي أجراها النائب العام المالي تركيزه على مسألة اعتراف حمدان بأنّه كان يُبلغ الحاكم بكل التفاصيل، فكان سؤاله الأول المدوّن في محضر التحقيق لحمدان: «تقول إنك كنت تُعلم حاكم مصرف لبنان بكل العمليات التي كنت تنفذها، هل كنت تعلمه بتفصيل العمليات، مثلاً عندما قمت ببيع الدولارات لشخص سوري، هل أعلمت الحاكم بهذا الأمر؟» فأجاب حمدان أنه لم يكن يعلم بأن الشخص سوري الجنسية. هنا سأله القاضي إبراهيم: «تقول أمام رجال التحري إنك أعلمت حاكم مصرف لبنان بهذا الأمر، والآن تقول عكس ذلك؟» فكرر حمدان إجابته قائلاً: «لقد كنت أُعلم الحاكم بمجمل العمليات والمبالغ والأسعار للشراء والبيع ولم أُعلمه بأنّ أحد الزبائن سوري».
وفي إفادة سلامة أمام القاضي إبراهيم، أثنى الحاكم على صفات حمدان الموظف في المصرف منذ التسعينيات، متحدثاً عن مهنيته ونجاحه في كل مركز تولّى أمره، ما دفع إلى ترقيته. وتحدث سلامة عن الوحدة النقدية التي أُنشئت بهدف مكافحة ارتفاع أسعار الدولار لدى الصرافين، معتبراً أنها تجربة جديدة في مصرف لبنان، رغم إشارته إلى أنّ مصرف لبنان كان قد تفادى التعامل مع الصرافين وأقفل جميع حساباتهم لديه. وذكر سلامة أنّ من مهام هذه الوحدة بيع وشراء الدولار نقداً والابتعاد عن استعمال احتياطات البنك المركزي للتدخل لدى الصرافين. وإذ أكد أن لا خلاف مع حمدان، أجاب بأن الرئيس المباشر لحمدان هو نائب الحاكم الأول الذي شغر منصبه منذ نحو عام. غير أنّه ذكر للقاضي بأن مازن يُطلعه على النتائج بعد إنجاز عملياته. ولدى سؤال القاضي له عن علمه بأنّ حمدان باع الدولار لصرافين غير مرخّص ببيعهم، أجاب سلامة بأنّ «حمدان أعلمني بذلك بعدما تمّت هذه العمليات وارتكز على تهدئة السوق جراء وجود عرض للدولار لدى كل الصرافين، فاقتنعت بالذي حصل»، علماً بأن حمدان كان قد ذكر في التحقيق الأولي أنه جرى اختيار أسماء الصرافين غير المرخص ببيعهم «بشكل عشوائي وقد وافق حاكم مصرف لبنان على هذه العمليات». ولدى سؤاله إن كان حمدان قد أبلغه بأنه باع الدولار للصرافين بـ 3800 ليرة أي بسعر مرتفع سيقود الصرّافين حتماً لبيع الدولار بسعر أعلى، ما يعزز تدهور سعر صرف الليرة مقابل الدولار، أجاب الحاكم بأنّ من واجب حمدان مراقبة السوق لبيع الدولار للجم السوق، زاعماً أنّه يستعمل أموال الصرّافين أنفسهم. كذلك نفى الحاكم ادعاء حمدان في التحقيقات الأولية بأنّه أبلغه ببيع الدولار لشخص سوري أو نفى علمه قيام مازن ببيع الدولار وشرائه من دون إيصالات، علماً بأنّ الأخير برر عدم استعمال الإيصالات بضيق الوقت! كما نفى الحاكم علمه باستعانة مازن بموظف متقاعد هو وسام سويدان في عمله، علماً بأنّ لدى سويدان كتاباً موقعاً من حاكم مصرف لبنان للعمل من دون مقابل في غرفة تبديل العملات الورقية.
أقرّ سلامة أمام المدعي العام المالي بأن حمدان كان يبلغه بما كان يقوم به


أما إفادات باقي الموقوفين، فقد ركّزت على أسماء الصرّافين الذين جرى بيعهم الدولار أو شراؤه منهم، والآلية التي اعتُمدت في ذلك، ولا سيما إدخال الدولار إلى المصرف وإخراجه منه. وذكر وسام سويدان الذي أكد أنه لم يكن يحصل على أي عمولة أنّ أمين الصندوق في المصرف بتكليف من حمدان كان يسلمه الأموال. وذكر سويدان أنّه لم يكن يجري التأكد من الأوراق الثبوتية للصرافين الذين يشترون الدولارات. كذلك قال سويدان إنّ رئيس مصلحة المحاسبة في المصرف المركزي كان يدوّن العمليات وتفاصيل المبالغ والتاريخ وسعر الصرف في جدول غير مرتبط بالنظام الأساسي للمعلوماتية في المصرف. وذكر أن «كل العمليات كانت تدون في جردة جانبية من دون إدخالها في الجردة الرئيسية للمصرف، وبالتالي لا تظهر حقيقة العمليات النقدية المجراة». ولدى سؤال سويدان إن كانت هذه العمليات قد حققت أرباحاً لمصلحة مديرية العمليات النقدية، أجاب: «بصراحة، حسب ما أعتقد، أنّ هذه العمليات سببت خسارة للمصرف وأرباحاً للصرافين»، علماً بأن حمدان لدى استجوابه أمام المحققين أبلغهم أن هدف إعادة تزويد الدولار للسوق التأثير إيجاباً على سعر الصرف، لكن من دون جدوى.
وبيّنت محاضر التحقيق أنّ توقيف صاحب شركة مكتّف لشحن الدولار رامز مكتّف واعترافه بشراء الدولار من مصرف لبنان عبر مازن حمدان، كان طرف الخيط الذي أوصل شبهة التلاعب بسعر الصرف إلى المصرف المركزي.
تجدر الإشارة إلى أنّ المدعي العام المالي ادّعى أمس على مدير الخزانة في مصرف «سوسيتيه جنرال» كريم الخوري، المشتبه في قيامه بشراء الدولار من السوق، مستخدماً رواتب موظفي القطاع العام، وشحن الدولار إلى خارج لبنان (راجع «الأخبار»، أمس)، وأحال ملفه إلى قاضي التحقيق بعد إخلاء سبيله.