بعنوان «مساهمة في خطة الحكومة للتعافي المالي»، وزّعت جمعية المصارف ورقة تزعم أنها خطّتها البديلة من خطّة الحكومة المالية التي سمّاها مجلس الوزراء «خطة التعافي». الجمعية وصفت ورقتها بأنها مساهمة منها في الخطّة التي لم تشترك أو تستشر فيها. في هذه الورقة الكثير من الوقاحة، إلا أن أبرزها التحدث «باسم المودعين». هم أنفسهم المودعون الذين استولت المصارف على أموالهم ويحاولون سحبها بلا طائل. لا بل إن الجمعية تشير إلى أنها ”تعتزم الإسهام في جهود خروج لبنان من الأزمة“، وهي التي تتعامى عن حقيقة كونها أحد أبرز مصادر هذه الأزمة وأكبر أسبابها. هي التي فرّطت في أموال المودعين وقدّمتها على طبق من ذهب لمصرف لبنان الذي بدّدها خلافاً لقانون النقد والتسليف. مسؤولية هذا الإفلاس، من زاوية المودعين، تقع على عاتق المصارف أولاً ولـ«تصطفل» هي ومصرف لبنان وحاكمه الذي أغدق عليها الكثير من الهندسات المنتجة للأرباح والرساميل المجانية. أين ذهبت هذه الارباح وكم توزّع منها إلى الخارج؟ فليكشفوا عن أرصدتهم وأملاكهم في الخارج مقابل السماح لهم بتقديم خطّة!
الاستيلاء على الأملاك العامة
تبدأ المصارف كلامها باتهام الحكومة بأنها صرّحت في خطّتها عن «بيانات مضلّلة وغير دقيقة». وترى الجمعية أن «القطاع المصرفي سليم، ولا يحتاج إلى إنقاذ، بل يحتاج إلى أن تدفع الحكومة التزاماتها». إلا أن الجمعية، في المقابل، تقترح «تسوية تتضمن إنشاء صندوق حكومي لإطفاء الدين تسهم فيه الحكومة بأصول تملكها بقيمة 40 مليار دولار (قطاع الاتصالات، أراضي الدولة، الأملاك البحرية…) مقابل كامل الأسهم. ويصدر الصندوق سندات دين طويلة الأجل ومنتجة للفوائد بقيمة 40 مليار دولار (مقوّمة بالدولار) من أجل تسوية نهائية لدين الحكومة على مصرف لبنان (يحمل مصرف لبنان هذه السندات ويستفيد من فوائدها). ثم ينقل مصرف لبنان، إلى الصندوق، كل ما يتعلق بدين الدولة وفوائدها، وفي المقابل تشطب الحكومة كل الدين المحمول من مصرف لبنان».
بصورة أوضح، وبعيداً عن التعقيدات الواردة في ما يسمى «خطّة المصارف»، سينتهي الصندوق كالآتي: شطب ديون الدولة بالليرة المحمولة من مصرف لبنان مقابل ديون جديدة بالدولار مغطاة بإيرادات من أملاك الدولة. أي إن مصرف لبنان سيشطب ديونه على الدولة مقابل حصوله على فوائد تغذّيها إيرادات الاتصالات والأملاك البحرية وأراضي الدولة. وقد ينتهي الأمر بشكل أفظع، عندما تتقرّر تصفية الصندوق، فيحصل مصرف لبنان على كامل هذه الأصول ويبيعها كما يشاء، أو يبقى شريكاً مضارباً للدولة في هذه الإيرادات، وله أن يوزّعها على المصارف كما فعل سابقاً في الهندسات المالية التي خلقت كتلة نقدية بالليرة لتغذية أرباح المصارف (نسميها تحويل المال العام إلى المال الخاص).

الدين بالليرة يبقى قائماً
هذه وقاحة تفوق الوصف، وخصوصاً أنها تفترض أيضاً منع الدولة عن التخلّف عن سداد ديونها الداخلية (المحمولة من مصرف لبنان والمصارف)، أي أن تبقى الدولة تدفع فوائد الديون الداخلية لمصرف لبنان والمصارف (مصرف لبنان يحمل سندات خزينة بقيمة 51250 مليار ليرة، والمصارف تحمل سندات خزينة بقيمة 21100 مليار ليرة).
حسابات الجمعية تتضمن اقتطاعاً من فوائد هذه السندات «حتى يعود الدين إلى مسار الاستدامة، وهذا الأمر يتطلب من وزارة المال أن تقوم طوعياً بعرض استبدال الديون»، (يعني استبدال الديون القديمة ذات الفوائد المرتفعة، بديون جديدة بفوائد أقلّ، من دون أن تذكر الجمعية ما هي معدلات الفائدة الجديدة).
محاولة الجمعية تسويق هذه الفكرة تستند إلى أن امتناع الحكومة عن التخلف عن سداد الديون الداخلية سيفسح لها المجال لتكون بوضعية أفضل في مفاوضاتها مع صندوق النقد الدولي: «سيكون وضع لبنان أفضل إذا لم يتخلف عن سداد الديون الداخلية لضمان الحصول على برنامج مع الصندوق من أجل تغطية كل الحاجات التمويلية» (هذه الحاجات تقدّرها الجمعية بنحو 8 مليارات دولار على مدى السنوات الخمس المقبلة خلافاً لتقديرات الحكومة البالغة 28 مليار دولار). ولا تكتفي الجمعية بذلك، بل تذهب أبعد منه بالإشارة إلى أن «الاتفاق مع الصندوق يبقى حاجة لتمويل عجز ميزان المدفوعات وعاملاً ضروريا لتحرير تمويلات خارجية أخرى. فالبرنامج يحتاج إلى جهود كبيرة، لكنه سيعفي اللبنانيين من التضخم المفرط الذي سينتج عن إفلاس مصرف لبنان أو التخلف عن سداد الديون الداخلية».
كلام المصارف يعني أن التضخّم الذي يشهده لبنان عادي، وكأن اللبنانيين الذين يدفعون ثمنه قادرون على سداده. وكأن المصارف ليست هي سبباً رئيسياً في هذه الأزمة التي أنتجت معدلات تضخّم يقدر أن تصل إلى 53% هذه السنة، وأن المصارف لم تكن أحد أعمدة هذا النظام الذي انهار، ولم تستولِ على أموال المودعين…
أما بالنسبة إلى الديون بالعملات الأجنبية التي أعلنت الحكومة التوقف عن سدادها، فإن المصارف تقترح أن تتضمن إعادة هيكلتها خيارات، من ضمنها واحد على الأقل يتعلق باستبدال الديون بأخرى على أساس قانون أميركا، وآخر يتعلق باستبدال الديون على أساس قانون لبناني، مشيرة إلى أنه «إذا تمّ بنجاح التوقف عن سداد الدين الداخلي، واستبدال الدين الخارجي، فسينتج عن ذلك انخفاض في نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي وعلى مدى السنوات العشر المقبلة من 154% في 2022 إلى 72.5% في 2030».

نكتة سيئة
هذه الحكاية التي يستحيل تسميتها «خطة»، مبنية على «استراتيجية» قائمة على الدفاع عن الضرر اللاحق بالمودعين البالغ عددهم نحو ثلاثة ملايين، والضرر اللاحق بالاقتصاد. أما أسوأ «نكتة» فيها فهي «مساهمة المصارف في تكوين اقتصاد منتج يعتمد على التصدير وتعزيز زيادة قدرات النمو…». فعلى الرغم من أنه تم تدمير كل الأنشطة الاقتصادية لمصلحة النظام المالي في لبنان عبر زيادة أسعار الفوائد وتوجيه الاستثمارات نحو الأصول المالية والعقارية، أي الريوع المنتجة للأرباح السهلة والسريعة الممولة بالمال العام، تلقي المصارف «نكتة» من نوع مساهمتها في تكوين اقتصاد منتج. أين كانت مساهمتها في الـ27 سنة الماضية؟ ثم تنصرف إلى التنظير حول «النمط السائد حالياً من انعدام المساواة والفقير والاضطرابات الاجتماعية والضرر الاجتماعي»، والحديث عن «احتواء الضرر الناتج عن ضبط المالية العامة عبر شبكة أمان اجتماعي مموّلة من الموازنة وضمن أهداف حماية الأكثر هشاشة من الشرائح وسائر المتضررين من انعدام المساواة. الهدف دعم 450 ألف مستفيد من خلال زيادة النفقات الاجتماعية إلى 4% من الناتج».
تزعم الخطة أن المصارف لم تتخلّف عن تسديد الودائع لأصحابها


لعلّ الصراحة تقتضي عدم نقاش أو عرض مثل هذه الخطّة التي تستهدف «فائضاً أولياً في الموازنة بنسبة 2.1% من الناتج المحلي الإجمالي، ليتيح عكس مسار ديناميات الدين ومعدلاته عبر خليط من إجراءات الإيرادات والنفقات وعبر إجراءات متفق عليها بشأن الدين العام». ألا تعلم المصارف ذات الخبرة في الشؤون الدولية، أن صندوق النقد الدولي يرفض أي برنامج لا يتضمن خفض الدين العام خلال خمس سنوات إلى حدود 70% من الناتج المحلي الإجمالي، ثم تقترح خفضه إلى 72.5% على مدى عشر سنوات؟

السعر القذر
أما نظرة المصارف لتوحيد سعر الصرف، فتكاد تكون برنامجاً مذهلاً. ففي بضعة أسطر، تشير الجمعية إلى أن «توحيد سعر الصرف يجب أن يأتي من خلال برنامج صندوق النقد الدولي، ليعطي حوافز من أجل التعافي الفوري للإنتاج المحلي ويحفز التطور على المدى الطويل لقطاع السياحة رغم انتشار وباء كورونا. الزراعة ستزدهر فجأة، لأن العملة المنفوخة كانت تضغط على عمليات الإنتاج الزراعي - الصناعي، توحيد سعر الصرف سيخفف من الحاجات التمويلية التي تعرض لبنان لقصور في التدفقات في حالات الأزمات مثل وباء كورونا. أكثر من ذلك، فإن توحيد سعر الصرف يجب أن يكون ضمن «تحرّك قذر» حيث يكون تدخل مصرف لبنان محدوداً بفترات معينة والتقلبات غير المضمونة».
إذاً، بالسياحة في ظل أجواء كورونا، وبالزراعة التي ستزدهر فجأة، وبالإدارة «القذرة» تريد المصارف أن توحّد سعر الصرف.

هيكلة «غير شكل»
في خطة المصارف، لعل أكثر جزء يتّسم بالوقاحة هو ذلك المتعلق بإعادة هيكلة القطاع المصرفي. تشير الجمعية إلى أنه «بعد تسوية ديون الحكومة المحمولة من مصرف لبنان، يجب أن تكون إعادة هيكلة القطاع المصرفي بعناية فائقة وتقدمية وبناءً على كل حالة بحالة. وإلى جانب مساهمة المصارف في التمويل والاقتصاد والناتج المحلي الإجمالي، فإن إعادة هيكلة القطاع المصرفي هي خطوة أساسية في عملية التعافي نظراً إلى الآتي: صحة القطاع المصرفي لديها وقع قوي على التصنيف السيادي، الميزانية المجمّعة للقطاع المصرفي مرتبطة بميزانية مصرف لبنان والحكومة، وتجعل القطاع المصرفي مركزياً في أي حل للأزمة، والقطاع المصرفي كان تاريخياً يدفع حصّة أكبر من الضرائب، وهو قطاع فعال يخدم الذين يريدون أن يصبحوا رواد أعمال في الاقتصاد الجديد».

شطب الخسائر مقابل أملاك الدولة في الاتصالات والأراضي والأملاك البحرية


وتكذب الجمعية حين تشير إلى أنها «تتكئ على أمر أساسي يتعلق بغياب التخلّف عن مودعيها من أجل استعادة الثقة». تفترض الجمعية أن المودعين يحصلون على أموالهم من المصارف، لتقول إن تقلّص الرساميل «يجب أن تتم معالجته حالة بحالة من قبل الهيئة الناظمة (مصرف لبنان) بالاستناد إلى معايير بازل ٣ والهيئة الناظمة ستقرّر أي مؤسسات، إذا كان هناك، يجب تصفيتها. ويمكن لهذه الهيئة الناظمة أن تشجع بعض المؤسسات المالية الضعيفة برساميلها على الاندماج، بينما سيسمح للآخرين باستكمال عملياتهم».
إذاً، لماذا لم تصدر المصارف بياناتها المالية المدققة حتى اللحظة إذا لم تكن خائفة من الإفلاس؟ ألم يفرض المدققون أن تتقيّد بمعايير «بازل 3» التي تفرض اتخاذ مؤونات بنسبة 45% على الخسائر الناتجة عن توظيفاتها السيادية وفي القطاع الخاص أيضاً؟ فمنذ أيلول الماضي لم تنشر غالبية المصارف ميزانياتها، ومنذ نهاية كانون الأول، لم تنشر كل المصارف أي ميزانية أو بيان مالي مقتضب حتى.



وعود بمئات آلاف الوظائف!
المصارف تعلّمت من الرئيس سعد الحريري كيفية إطلاق الوعود. أمر لا بدّ من التنويه به لأنه يعبّر عن حقيقة قاسية في بنية هذا النظام. الحريري، كما فعل سياسيون آخرون بأشكال مختلفة، وعد بخلق عشرات آلاف الوظائف. المصارف تعد اللبنانيين، اليوم، بعشرات آلاف أخرى على الشكل الآتي: 350 ألف وظيفة في الاقتصاد النظامي التي ستخلق من رؤيتها الاقتصادية في نشاطات تصدير اللوجستيات والخدمات، ويضاف إليها 50 ألف وظيفة في الصناعة، و50 ألف وظيفة في الزراعة، و60 ألف وظيفة في اقتصاد المعرفة، و10 آلاف وظيفة في الخدمات المالية. أما الناتج المحلي الفردي فسيبلغ 15 ألف دولار عام 2030!