هل نحن مقبلون على مجاعة؟ سؤال يتداوله الكثيرون منذ أن فقدت الليرة استقرارها مقابل ارتفاع سعر الدولار بشكل جنوني. يُستتبع هذا السؤال بسؤالين آخرين: هل سيستمر مصرف لبنان باستيراد المواد الأساسية من قمح ودواء ومحروقات؟ وهل يتأثر هذا الاستيراد بتراجع تحويلات المغتربين إلى عائلاتهم في لبنان ولا سيما بعد التعميم الأخير لمصرف لبنان بتقاضيها بالعملة اللبنانية؟ يجمع الخبراء الاقتصادييون الذين تواصلت معهم «الأخبار» على أن ما يسميه مصرف لبنان بـ«الاحتياط» البالغ 21 مليار دولار ليس سوى ما تبقّى من أموال المودعين: أقل من 5 مليارات دولار تُصرف على المحروقات (نحو 2.5 للكهرباء والباقي للوقود)، أما الـ15 ملياراً فهي كلفة الاستيراد بالإجمال. لكن مع الأزمة الحالية لن يكون بوسع لبنان الاستيراد بأكثر من نصف هذا المبلغ. والنتيجة أننا مقبلون على تعميق الأزمة، وكل القطاعات المرتبطة باستهلاك المواد المستورَدة ستتأثر حكماً. المفارقة هنا، أن الاقتصاديين يرون في هذه الأزمة فرصة لتعويم الإنتاج المحلي، وفقاً لنظرية تقول بأن إنتجانا مرتفع ويفترض بانخفاض الاستيراد أن يدفع المواطنين إلى استبدال البضاعة المستوردة ببضاعة لبنانية. الترف لم يعد خياراً ولا إنفاق عشرات ملايين الدولارات على استيراد الورود والحليب واللبن وأنواع الأجبان المختلفة والنبيذ عوضاً عن الانصراف إلى الزراعة والصناعة. السؤال الرئيسي الذي يطرحه أحد الخبراء: لماذا نستهلك التفاح الأسترالي مثلاً بدل اللبناني ولماذا نستورد العصير والحليب من السعودية وممنوع المساس بهذا الاتفاق (عارض رئيس الحكومة السابق سعد الحريري فسخ الاتفاق). سيكون على اللبناني احتساء النبيذ اللبناني (يعمل في لبنان 53 معمل نبيذ) بدلاً من الفرنسي والإيطالي، وشراء الملبوسات والمفروشات المحلية الصنع. علماً أن فرض وزير الاقتصاد السابق منصور بطيش رسوماً إضافية على استيراد المفروشات أدّى إلى جنون التجار. وبالأرقام، يبلغ حجم الاستهلاك في لبنان 105% من الإنتاج أي ما قيمته 57 ملياراً ونصف مليار دولار استناداً إلى دراسات عام 2018. ولا يوجد بلد في العالم يفوق فيه حجم الاستهلاك حجم الإنتاج، وهو ما يصفه الاقتصاديوين بـ«الجريمة». تجدر الإشارة إلى أن 15% فقط هو استهلاك حكومي (7 مليارات ونصف مليار) خلافاً لما يروّج له، والباقي يعود لاستهلاك الأسر (50 ملياراً).
السياسة النقدية والمالية والاقتصادية المعتمدة ما بعد الطائف سقطت

من ناحية أخرى، الجوع بمعنى عدم امتلاك القدرة على استيراد الوقود والقمح والدواء يتعلق بما إذا قرر حاكم مصرف لبنان والحكومة اللبنانية القيام بواجباتهما أم لا، إذ يفترض أن تكون أولوية الحكومة وضع خطة عمل لزيادة الإنتاج وتخفيف الاستيراد. «المشكلة في القطاع الإنتاجي، والحلّ في اقتصاد منتج وليس ريعياً. فالنموذج الاقتصادي والنقدي والمالي الذي جرى العمل به بعد اتفاق الطائف سقط وعلى الدولة اليوم مراجعة سياستها كاملة»، يؤكد أحد الخبراء. الاستمرار «بتصدير أولادنا بدل الإنتاج والتصدير لم يعد مجدياً أيضاً». أما عدم الالتفات إلى أسباب هذا التدهور، فسيقود حتماً إلى أزمة قريبة جداً في الشهرين المقبلين ولا سيما أن التحويلات الخارجية التي كانت جزءاً من السيولة المستعملة للاستيراد انخفضت تدريجياً عبر السنوات وستنخفض بنسبة أكبر اليوم مع محاولة مصرف لبنان الاستيلاء على هذه الأموال التي تصل بالدولار عبر تسليمها إلى المرسل إليه بالعملة اللبنانية وبسعر الصرف الذي يحدده. ففيما بلغت هذه التحويلات أوجها في عام 2014 بقيمة إجمالية وصلت إلى 9.7 مليارات دولار، بدأت بمسارها الانخفاضي تدريجياً في السنوات التي تلت، لتلامس 7.8 مليارات دولار في عام 2018 و4.3 مليارات دولار لغاية حزيران 2019 (85% من هذا المبلغ هو قيمة تحويلات المغتربين أي ما يعادل 3.5 مليارات دولار). لكن اللافت هنا أن هذه الأموال لا تبقى كلها في لبنان، بل خرج منها في عام 2019 ولغاية شهر حزيران 2.9 مليار دولار بينها 1.9 مليار هي تحويلات اليد العاملة الأجنبية إلى عائلاتها في الخارج أي ما نسبته 65% من مجمل التحويلات.
أما الفاتورة الشرائية لمصرف لبنان فتُقسم على القمح بقيمة 150 مليون دولار سنوياً مقابل 600 ألف طن، يضاف إليها 1 مليار و400 ألف دولار فاتورة الدواء بما فيها المعدات الطبية، و2 مليار و200 مليون دولار على الوقود وما يعادل هذا المبلغ لشراء محروقات مؤسسة كهرباء لبنان. غير أن فاتورة المحروقات انخفضت اليوم مع انخفاض أسعار النفط عالمياً من 5 مليارات دولار إلى 3 مليارات ما يفترض أن يؤمّن وفراً كبيراً. المعضلة هنا بأن مصرف لبنان، ووفق الخبراء سيموّل هذا الاستيراد ممّا تبقّى لديه من أموال الناس. لكن «الكاش» عبر المصرف سينخفض دراماتيكياً لعدم ثقة المواطن بالنظام المصرفي بعد فرض كابيتال كونترول غير قانوني، كما أن إرسال الأموال عبر الشركات سينخفض أيضاً نتيجة التعميم الأخير باستلامها بالليرة اللبنانية، ما يعيدنا مجدداً إلى النقطة الرئيسية: كيف سيموّل مصرف لبنان استيراد المواد الأولية الذي كان يُموّل سابقاً من التصدير وأموال المغتربين؟