تتفاقم الأزمة الاقتصادية في لبنان يوماً بعد يوم منذ ما قبل جائحة كورونا. ويلوح في الأفق واقعٌ يبدو أكثر سوءاً بسبب انهيار العملة وأزمة الغذاء العالمية، فيرتفع منسوب التكافل الاجتماعي عند استشعار الخطر، ليلعب دوراً في التصدي لمخاطر تعجز عنها الدولة. فتبدأ المبادرات الأهلية في القرى والمناطق بالتصدي لهذا الواقع من خلال الحصص الغذائية التي يتمّ توزيعها على الأشخاص الذين فقدوا وظائفهم والذين يعانون من الفقر. لكن، هل تكفي هذه المبادرات لإنقاذ الناس من الأسوأ مما هو قادم؟يطرح أهالي بلدة بدنايل البقاعية هذا السؤال. إذ «وصلت البلاد إلى مرحلة إذا لم يكن الناس فيها جزءاً من الحلّ فهم حتماً جزءٌ من المشكلة»، يقول راغب الزهر، أحد المتطوعين في مشروع بدنايل التكافلي. يضيف: «لا بدّ من تحفيز الوعي لدى المواطنين بتوقفهم عن لعب دور سلبي في أمورهم المعيشية. فقد اعتاد الناس الاعتماد على الوظائف بدل أن يكونوا فاعلين في الشؤون العامة... عليه، كان علينا أن نكون مبادرين لتحقيق الاكتفاء الذاتي في ظلّ عجز الدولة».
مرة أخرى، تطرح هذه المسألة إشكالية الآثار السلبية للنظام الاقتصادي الريعي في المجتمعات التقليدية. هل أسهم نظام التوظيف والعمل في لبنان منذ عام 1992، في تعزيز العطالة - أو البطالة -، وخلق نوع من الاتكالية في المجتمع؟ بعيداً عن التنظير، وبالاقتراب من الأرض، تبدو بدنايل نموذجاً للتضامن المجتمعي. إذ بدأ العمل في البلدة من خلال مجموعة شبان متخصصين لتحسين الشأن المعيشي فيها لمعالجة تبِعات الـ«كورونا»، برعاية الأحزاب والبلدية وبعض الفاعليات. وللوصول إلى المبتغى، أعدّ الشباب المتطوعون خطة عمل تبدأ باستمارة فيها جملة مسوحات:
• اجتماعية (لأخذ المعلومات اللازمة عن الأوضاع الاجتماعية للعائلات داخل البلدة، وتحديد العائلات الأكثر تضرراً، أو تلك التي يمكن أن تتأثر مع الوقت).
• طبية وصحية (لتحديد نسبة الأهالي الذين يعانون من أمراض مزمنة وتقصّي حالات الإصابة بالكورونا).
• نفسيّة (لتقصّي الحالات النفسية التي يمكن أن يسبّبها الحجر الصحي).
• بالإضافة إلى المسح الزراعي.
«من خلال هذه الاستمارة التي غطت نحو 1700 وحدة سكنية، استطعنا تقييم الأوضاع الاجتماعية، والأشخاص القادرين على التطوع عند الأزمات، والأعمار، والأمراض، وعدد الأطفال لمواكبتهم في التعليم عن بعد» يقول علاء سليمان، أحد المتطوعين في لجنة المكننة والمعلوماتية، مضيفا: «لقد استطعنا تحديد المهارات لخلق فرص عمل للأفراد في حال طالت الأزمة».
هكذا، عمل أبناء البلدة نيابة عن مؤسسات الدولة الغائبة في تشكيل لجان إعلامية، ثقافية، صحية وتربوية، بالإضافة إلى لجان توزيع المساعدات ومتابعة الاتصالات، وأخيراً والأهم، اللجنة الزراعية ومكتب التبرعات. إضافة إلى اللجان، يؤدي «كشاف التربية» دوراً مهماً، ولا سيما في تأمين التواصل مع المغتربين. الكشاف الذي تأسس في البلدة عام 1967، لا يزال ناشطاً إلى اليوم. يتحدث عن دوره المحامي الشريف سليمان فيقول: «فوج بدنايل في كشاف التربية من أكبر الأفواج التابعة لوزارة التربية. وبالتالي يمكن القول إن أغلب سكان البلدة هم كشفيون قدامى، كما أن هناك روابط قوية لفوج بدنايل الكشفي مع كل أهالي القرية، ولا سيّما المغتربين منهم». ويضيف سليمان: «التحق الفوج بالتعبئة العامة التي أعلنها مجلس الوزراء من خلال العمل في مكاتب التكافل الاجتماعي ومع الدفاع المدني. وقمنا بحملة تأمين الحصص الغذائية، والتوعية والتوجيه نحو الزراعة البيتية، كما استطعنا تأمين التبرعات للتصدي لمسألة نقص الأدوية لقرابة الـ 140 عائلة منقطعة عن العمل بسبب كورونا، وذلك عبر التواصل مع قدامى الفوج من المغتربين».

لجنة الدعم
تعمل لجنة الدعم على أن لا يخلو بيت محتاج من الحصص التموينية، وذلك بالإضافة الى المساعدات التي تتعهدها البلدية والأحزاب. وفي شهر رمضان المبارك، تقوم خطة الدعم على توزيع اللحوم والخضر كل 10 أيام. وللقادم من أيام البرد القارس في فصل الشتاء، قام أحد المتبرعين بملء خزان المازوت بـ 80 ألف ليتر، لتحصل كل عائلة محتاجة على برميلين اثنين.

المشروع الزراعي
يحتل المشروع الزراعي المساحة الأكبر من مبادرة بدنايل الاجتماعية. يتحدّث مسؤول اللجنة الزراعية المهندس علي حسن، فيقول: «بدأت تتكون الفكرة من خلال نداء الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله قبل أزمة كورونا بضرورة التوجه نحو الزراعة، وبالتالي قمنا بتكوين خلية أزمة، وبدأنا الاتصال بالأشخاص الذين يمكن أن يتفاعلوا معنا». وبحسب حسن، تمّ وضع خطة كالآتي:
أولاً: تأمين أراضٍ بحدود 50 الى 70 ألف متر مربع موزعة بين الكروم والجرد والسهل والوسط، وهي أراض متنوعة من حيث التربة.
ثانياً: فلاحة الأرض: حيث قام أحد المتمولين بتأمين 3 آليات متنوعة بحسب مراحل الحراثة. كما تمّ اعتماد أصحاب الاختصاص في حرث الأراضي وتحديد الزراعات.
ثالثاً: توزيع الأراضي على الأهالي الذين يحتاجون إلى عمل من الذين لا يملكون أرضاً للزراعة.
كان الإقبال على هذا المشروع كبيراً من قبل أن تنتهي أعمال الفلاحة. إذ ثمّة «عدد هائل من الطلبات صارت أكبر من حجم المشروع»، يقول حسن. كما تم تقسيم الخطة الزراعية من حيث طبيعة الزراعات إلى ثلاث:
• الزراعة البيئية البيتية لحوالي 600 وحدة سكنية.
• الزراعة الموسمية لأكبر عدد ممكن من الأراضي التي تمت فلاحتها.
• الزراعة الاستراتيجية التي يمكن من خلالها تأمين الاكتفاء الذاتي الغذائي على المدى البعيد، و«بالتالي إنشاء مؤسسة تعاونية زراعية تتمكن من توزيع العائدات على العائلات المحتاجة، ثم توضيب وتخزين ما تبقى من السلع لتصديرها. وبذلك يتحقق الدعم الذاتي للمشروع، ويتمكن المشرفون على المشروع من إعطاء أجور للمتطوعين وتقديم الحصص لأصحاب الأراضي الذين سمحوا باستثمار أراضيهم». يؤكد حسن أنهم يعملون لمراحل لاحقة «ليصبح المشروع قادراً على تغذية نفسه بنفسه». ويشير إلى أهمية إعادة الهوية الزراعية لبلدة بدنايل البقاعية.
يتبادر أخيراً بعد الاطلاع على هذه التجربة مجموعة من الأسئلة: ما الذي يمنع أن يتمّ تعميم هذه التجربة المحلية على صعيد الوطن؟ وعلى أقل تقدير، ما العائق أن يتبنّاها اتحاد بلديات البقاع لإعادة الهوية الزراعية للقرى والبلدات؟ وكيف ستعود الهوية إذا لم يتم تقديم ثقافة الإنتاج على ثقافة الاستهلاك؟ وما الذي ينقص أهالي البقاع لتأمين الاكتفاء الذاتي، فضلًا عن التصدير؟