يختصر بيان وزارة الداخلية الألمانية حول «حظر أنشطة المنظمة الإرهابية الشيعية حزب الله» أمس، وجهاً مهمّاً من الواقع السياسي والأخلاقي الأوروبي الغربي، والألماني تحديداً. فالذريعة التي تسلّح بها وزير الداخلية هورست زيهوفر لترجمة مذكّرة البرلمان (بوندستاغ) في كانون الأوّل الماضي، والتي دعت حكومة المستشارة إنجيلا ميركل إلى حظر أنشطة الحزب، هي أن «حزب الله يدعو بشكل علني إلى الإبادة العنيفة لدولة إسرائيل ويشكك في حقها في البقاء».وبحسب المعلومات، قامت قوة متعددة من الشرطة الاتحادية فجر أمس، بحملات مداهمة لستة مراكز تابعة لجمعيات وحسينيات بغالبيتها للجالية اللبنانية، وصادرت الهواتف والكومبيوترات والأجهزة الإلكترونية من منازل ومقار للجمعيات، واعتقال بعض الأشخاص. إلّا أن أكثر من مصدر ألماني ومن الجالية اللبنانية في برلين، أكّد لـ«الأخبار» أنه «ليس هناك من اعتقالات، إنّما استجواب روتيني لبعض الأشخاص ويتم إطلاق سراحهم سريعاً».
وينفي أكثر من مصدر دبلوماسي لبناني وغربي، أن يكون لتوقيت التحرّك أي علاقة بالتطوّرات في الداخل اللبناني، وخصوصاً أنها تأتي بعد رسائل أوروبية إيجابية للحكومة اللبنانية وعرض شركة سيمنز تولّي تطوير قطاع الكهرباء في لبنان. ويضيف المصدر اللبناني إن «المعلومات التي تناقلتها وسائل الإعلام الألمانية والعربية عن حملات الشرطة الفدرالية ضد من سمتهم ناشطين بالحزب، مضخّمة وبعضها مختلق». بينما يؤكّد المصدر الأوروبي أن «ما حصل هو فقط ترجمة لقرار سابق، وهو تأخر بفعل الانشغال الرسمي بفيروس كورونا، والمستهدفين هم جمعيات تعتقد الاستخبارات الألمانية بأنها مقرّبة من الحزب».
من جهته، يقول مصدر دبلوماسي عربي إن «الضغط الأميركي على ألمانيا لحظر حزب الله، هدفه جرّ الاتحاد الأوروبي بأكمله إلى قرار بحظر الحزب وإعلانه كاملاً منظمةً إرهابية»، مضيفاً إنه «لا يعني هذا أن ألمانيا ستمارس ضغوطاً على الاتحاد لتغيير موقفه، لكنّها تحفّز الآخرين على اللحاق بها».
وفيما يفذلك بعض قيادات الحزب الديموقراطي المسيحي مبرّراً سياسياً لقرار حكومتهم ضد حزب الله، بإعطاء الأميركيين تنازلاتٍ في ملفات إيران، لتفادي الضغط الأميركي على أنبوب السيل الشمالي (نورد ستريم 2) الذي ينقل الغاز الروسي إلى ألمانيا من دون المرور بأوكرانيا، يؤشر هذا الموقف السياسي والأخلاقي الرسمي الألماني المستجدّ، بمعاداة الحزب بوصفه حركة مقاومة ضد الصهيونية، إلى أن الخضوع للوبيات الضغط الصهيونية والأميركية في الغرب الأوروبي لا مفرّ منه. فالألمان يطبّقون اليوم، بعزّ انشغالهم بكورونا، ما طالب به وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو في زيارته لبرلين العام الماضي.
مرّة جديدة، تثبت الحركة الصهيونية قدرتها على فرض أجندتها في غرب أوروبا، في ألمانيا بعد بريطانيا، حتى لو كان هذا الموقف على حساب المصالح الألمانية. برلين تُبعد نفسها كثيراً عن الدور الخارجي التي تطمح إليه منذ عام 2000، كجسر بين المتصارعين، والذي استحوذت عليه روسيا عن جدارة، (مع أن ألمانيا حققت نجاحات، ولا سيّما في عمليات تبادل الأسرى بين المقاومة والعدو الإسرائيلي وفي ملفات أخرى).
لماذا يقبل الألمان أن يُعاقَب الفلسطينيون واللبنانيون على جرمٍ اعترف ألمان بارتكابه؟


وعلى عكس الصورة التي تسعى الدبلوماسية الألمانية إلى إظهارها وتأكيد مهنيتها العالية، يضع القرار ألمانيا إمّا ضمن نادي «ناقصي الفهم» لواقع الصراع في الشرق وتجذّر المسألة الفلسطينية فيه، وإمّا ضمن فريق العاجزين، حيث تظهر الحكومة الفدرالية ومن خلفها الحزب الديموقراطي المسيحي، مطيّة للأميركيين واللوبيات الصهيونية، ما يقلّص الثّقة بأدوار ألمانيا المستقبلية. مسار الأحداث هذا تعبّر عنه الحكومة الفدرالية وجزء من «النخب» الجديدة بوجهين متناقضين: رفع راية حقوق الإنسان، والدفاع عن الصهيونية في الوقت ذاته!
والسؤال، لماذا تتنطّح ألمانيا من بين دول الاتحاد الأوروبي (لا يعتبر الجناح السياسي لحزب الله إرهابياً)، لتنفيذ ما يريده الأميركيون من تثبيت للظلم التاريخي في فلسطين، عبر معاقبة كل من يجاهر بحق الفلسطينيين بأرضهم وتجريدهم من هذا الحق؟ هل عقدة «الهولوكوست» لا تزال تتحكّم، إلى جانب المصالح الاقتصادية، بالسياسة الألمانية في منطقتنا، كما تكفّلت منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية بأن يدفع الألمان «الخوّة» السنوية لإسرائيل، تكفيراً عن ذنب؟ إذا كان كذلك، فلماذا يقبل الألمان بأن يُعاقب الفلسطينيون واللبنانيون على جرمٍ اعترف ألمان بارتكابه؟ أمّا إذا كان حساب الحزب الديموقراطي المسيحي الألماني مع حزب الله كحركة دينية، فما هو الموقف الألماني من قانون «يهودية الدولة» في فلسطين، وألا يشكّل هذا الإعلان مجاهرةً بعنصرية فاقعة، ودعوة للآخرين في محيط فلسطين لإقامة دويلات دينية متطرفة على طراز إسرائيل؟ ما هي مصلحة ألمانيا بذلك؟
بالمحصّلة، فإن من سيدفع الثمن المباشر لهذا القرار والكثير مثله في المستقبل، هم المواطنون الألمان من أصول لبنانية، طالما أن الحزب ليس موجوداً بشكل رسمي في ألمانيا، بل لديه مناصرون لبنانيون وفلسطينيون ومن جنسيات مختلفة، يناصرونه كحركة مقاومة بوجه إرهاب «الدولة» الإسرائيلي.