لم يسكت رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط منذ أسابيع وأشهر عن العهد، لا يوفّر فرصة لاستهدافه وانتقاده، وهو ما يرفض التيار الوطني الحر أن يسلّم به. فالهدنة التي أعقبت حادثة قبرشمون انتهت مفاعيلها، مع مشاركة الاشتراكي في حملة الاعتراضات والتظاهرات ضد العهد ومن ثم الإشكالية التي رافقت سقوط حكومة الرئيس سعد الحريري وتشكيل حكومة الرئيس حسان دياب. رغم أن جنبلاط حاول أكثر من مرة إبقاء الأبواب مفتوحة مع العهد، وحرص على تحييد الجبل عن الخلاف السياسي الذي تزامن مع تظاهرات 17 تشرين الأول، إلا أن بعض شخصيات التيار ومحازبيه لم يبلعوا ما جرى، ولم يهضموا أن هناك متغيرات كثيرة لحقت بهم، أولاً بفعل ابتعاد بعض شخصياتهم النيابية والوزارية الاستفزازية عن المشهد العام، وثانياً بفعل الانهيار العام الذي لحق العهد بكل أركانه. وكما تمكن جنبلاط من الحصول على فرملة أميركية رسمية لتطويقه ومنع الاستفراد به، حصل العهد وباسيل على إحاطة حزب الله الكاملة، ولم تتطور العلاقة الثنائية بين المختارة وبعبدا ــــ بيت الدين، الى أكثر من لقاءات عابرة لم تتخطّ الصورة التذكارية. لكن جنبلاط لم يقطع الحوار مع حزب الله، وطبعاً مع الرئيس نبيه بري، ورغم امتعاضه من موقف الحزب غير الواضح تماماً قبل حادثة قبرشمون وبعدها، إلا أنه لا يزال محتفظاً بذلك الخط التصاعدي الذي يمنع استفراده.بعد أقل من سنة على حادثة قبرشمون، تعود أوساط التيار، مدعومة من بعض المرجعيات، الى محاولة استنهاض الجبل ومحازبي التيار تحت عناوين مختلفة، منها ما هو إغاثي، وما هو اقتصادي وما هو سياسي وأمني. ثمة شخصيات سياسية محايدة تتحدث عن أن التيار يحاول في لحظة تراجعه السياسي الداخلي في مناطق «العمق المسيحي» بلورة حالة استنهاض حزبية ومسيحية في مناطق الجبل، تعويضاً عن التراجع الشعبي الذي لحق به منذ 17 تشرين الأول في مناطق نفوذه. يمثّل الجبل بالنسبة إلى العونيين الساحة الوحيدة التي انكسروا فيها في عزّ صعود العهد ورئاسة الجمهورية، والتي يريدون منها أن تكون المكان الذي تنكسر فيه زعامة جنبلاط. هناك حالات غير سويّة في الجبل بدأت تعيد تجميع نفسها وخلق حساسيات بحجة الدفاع عن رئاسة الجمهورية أو عدم ترك «الجبل المسيحي» تحت رحمة من ينتقد الموقع الماروني الأول. وهناك لقاءات بعيدة عن الأضواء تعقد للاستنهاض، ومساعٍ برعاية مرجعيات، لبثّ الخوف من المستقبل القريب بحجة الوضع الاقتصادي المتدهور في الجبل والمسؤول عنه جنبلاط، سواء لدوره في التركيبة التي حكمت البلد بعد 1990 أو من خلال زعامته للجبل. مفارقة أن يكون الجبل الساحة الوحيدة التي يمكن فيها للتيار أن يلتقي فيها جنبلاط لمنازلته، فلا يقترب من الشمال، حيث الزعامتان المسيحية لتيار المردة والقوات اللبنانية، ولا من باقي أقضية جبل لبنان حيث المواجهة مع القوات لا بد منها. ومفارقة أن لا تفهم الأسباب التي تجعل الاستنهاض اليوم في ظل أزمة اقتصادية ومالية حادة يشارك التيار في المسؤولية عنها، فيهرب الى الأمام من خلال عصبية مسيحية أثبتت عدم جدواها في ظل الانهيار المالي والاقتصادي الذي يكاد يطيح كل الشعارات الرنانة، ولاسيما أن أهل الجبل هم على موعد مع الصيف في أزمة اقتصادية وصحية كان يمكن أن تعيدهم الى أراضيهم لاستثمارها بعدما انتكس صيف عام 2019 بفعل حادثة قبرشمون، بدل العودة بهم الى خطاب طائفي وحزبي عقيم.
من يمكن أن يطفئ النار مبكراً ويستبق أي فتنة متجددة؟ أول هؤلاء التيار الوطني الحر نفسه، لأن النصائح والاستشارات الخارجية لاستعادة نفوذه المتراجع لا تشمل حرب إلغاء جديدة، بل انكفاءً تاماً وعدم الانجرار وراء استفزازات تعيد الانقسام السياسي أفقياً وعمودياً على السواء. فاستهداف جنبلاط ليس الطريق السليم للوصول الى رئاسة الجمهورية، لأن لجنبلاط حيثية خارجية تتعدّى بأشواط مكانة التيار في عواصم القرار، التي لم تعززها حكماً قضية عامر الفاخوري.
ثانياً، جنبلاط نفسه، فهو وإن كان قد فتح أبواب الحوار مراراً، إلا أنه أيضاً ساهم في عزل نفسه مسيحياً، ولا يستطيع المطالبة بدعم كل القوى المسيحية وقت الأزمة، وفي اليوم التالي يرسل نجله تيمور الى اللقلوق، كما جرى حين ألغى رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع زيارته للشوف «لأسباب صحية». ولا يمكن أن يراهن على أي حلف سياسي مع القوات أو مع غيرها لأسباب آنيّة، ليتخلّى عنهم عند أي استحقاق له أبعاد أخرى.
ثالثاً، القوى والشخصيات المسيحية، وفي مقدمهم نواب الجبل المسيحيون من قوات لبنانية وشخصيات كتائبية ومستقلة قد تكون فاعلة في الجبل، فلا ينتظر هؤلاء كارثة أخرى كي يتحرّكوا لساعات معدودة ويعودوا الى النوم كأهل الكهف.
رابعاً، حزب الله، لأن أي فتنة مسيحية درزية لن تكون في مصلحته ولا في مصلحة الوضع الداخلي برمّته، وهو الوحيد القادر على لجم حلفائه جدياً.
خامساً، وبلا تردّد، الجيش، فمسؤوليّته الأمنية مضاعفة، والتذرّع بأمور لوجستية كما حصل في قبرشمون بسبب عراضات عسكرية، لم يعد مسموحاً. ما يحصل في الجبل خطير، والمسؤولية اليوم تقع على الجيش في استباق أي تطور، وتقييد حركة بعض الضباط الموالين للتيار، والمدنيين المستظلّين به رافعين لواء التيار الوطني في وجه التقدمي الاشتراكي، كما بعض الضباط المحسوبين على جنبلاط.
أما المسؤول الأول والأخير فهو رئيس الجمهورية، ومستشاروه الشوفيون يعرفون بخبرتهم الملموسة تبعات أي احتكاك مستجدّ، كي لا يضاف الى سجلّ العهد اشتباك جديد في الجبل، في زمن الوباء والفقر والجوع.