على الـ«هيركات» لا تجوز الرحمة. أصلاً، هي لم تولد لتموت وليُلبّى طلب رئيس مجلس النواب نبيه بري بقراءة الفاتحة عليها. اقتراح بري بتلاوة الفاتحة لروح مشروع قص الودائع بدا أشبه بالتفاخر، إذ ربط بينه وبين مشروع القيود على رأس المال (كابيتال كونترول) الذي اقترحه وزير المال غازي وزني، ثم ادخل عليه رئيس الحكومة حسان دياب تعديلات جوهرية، قبل ان يُعلن بري رفض المضيّ به. ورغم أن الـ«هيركات» والـ«كابيتال كونترول» باتا أمرا واقعاً نتيجة السرقة التي يستمر أصحاب المصارف ورؤساؤها التنفيذيون بارتكابها، برعاية سياسية رسمية، إلا ان الاولى ليست كالثانية. مشروع الـ«كابيتال كونترول» لم يكن سوى اقتراح من قبل جمعية المصارف، لم يؤدّ فيه وزني سوى دور ساعي البريد. اما اقتراح الـ«هيركات»، فلم يتبلور بعد. ظهر معارضوه، لكن لم يرفع احد يده ليقول إنه صاحبه. أصلاً، هو لم يصبح مشروعاً بعد. ما جرى في الايام التي تلت تسرّب مسودة الخطة المالية للحكومة، هو ان المصارف وشركاء أصحابها ورعاتها شنوا هجوما استباقيا ناجحا وفعالاً، ضد الـ«هيركات»، وصوّروا للمودعين الذين بُدِّدت ودائعهم أن اموالهم المنهوبة ستتعرض للقص.
(هيثم الموسوي)

سقطت فكرة الـ«هيركات». لا بأس بذلك. «اهضم» ما يُقال لمعارضة الفكرة، هو إن بديلها يكمن في «استعادة الاموال المنهوبة». وهل من طريقة أسرع من قص الودائع لاستعادة المال المنهوب؟ هل يتخيّل أحد أن المال المنهوب مكدّس تحت الأسرة أو في مستودعات؟ غالبيته العظمى مودع في المصارف، وفي عقارات، وفي أسهم. لكن لا بأس في إسقاط فكرة الـ«هيركات»، وهلمّوا بنا إلى استعادة المال المنهوب.
ثمة مال منهوب ليس بحاجة إلى تدقيق، ومصادرته ممكنة فوراً، سواء لصالح الخزينة، أو لصالح صغار المودعين:
- اموال الهندسات المالية التي سُرِقت من اموال المودعين والمال العام الموضوع في عهدة مصرف لبنان.
- الفوائد التي دفعها رياض سلامة للمصارف (قدّرها توفيق كاسبار بـ6 مليارات دولار في العام الماضي وحده، وعلى الاموال المودعة بالدولار حصراً)، والتي سُرقت أيضاً من اموال المودعين ومن المال العام.
- الفارق بين معدّل الفوائد في لبنان على الودائع ومعدلات الفائدة في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا. وهذا الفارق قدّره سمير ضاهر بـ16 مليار دولار للفترة الممتدة حصراً من عام 2016 إلى عام 2019، وهي سُرِقت من أموال المودعين أيضاً.
- جميع أرباح المصارف المحققة، وتحديداً تلك الموزعة على مالكيها والمحوّل جزء كبير منها إلى الخارج، والمسروقة أيضاً من اموال المودعين والمال العام.
- سوليدير. هذا المال العام المنهوب، الذي مدّدت حكومة فؤاد السنيورة الاولى عملية نهبه لعشر سنوات إضافية تنتهي عام 2029، ولا يحتاج الأمر لاكثر من قانون «بسيط» في مجلس النواب، او مرسوم «بسيط» يُصدره مجلس الوزراء.
- الاملاك العامة المسروقة، وأولها الاملاك البحرية، المعروفة والمحددة رسمياً، والتي توجب القوانين استعادتها فوراً.
ما تقدّم هو غيض من فيض الأموال المنهوبة التي لا تحتاج إلى تدقيق. التدقيق الوحيد الذي تحتاجه يهدف إلى تحديدها لا اكثر، لتداخل بعض بنودها. اموال منهوبة، تغني عن الـ«هيركات»، إذا ما أضيفت إليها ضريبة على الثروة، لا تشمل المال المودع في المصارف وحسب، بل سائر الأصول، وعلى رأسها العقارات.
وبعيداً عن الـ«هيركات» الذي لم تتضمنه صراحة مسودة الخطة الحكومية، ورغم كل الملاحظات التي يمكن إيرادها بشأنها، ثمة في هذه «الخطة» ما ينبغي التمسك به، لاهميته:
1- هي الوثيقة الرسمية الاولى التي تقدّر خسائر مصرف لبنان، إذ حددتها بأكثر من 42 مليار دولار. وقدّرت ارتفاعها إلى اكثر من 63 مليار دولار بعد إعادة هيكلة الدين الحكومي وديون الدولة التي يحملها مصرف لبنان. ولا تشمل هذه التقديرات الخسائر التي ستنجم عن إعادة هيكلة القطاع المصرفي. ببساطة، هي الورقة الاولى التي يجب استخدامها للإطاحة برياض سلامة. صحيح ان القانون يمنحه حصانة تحول دون إقالته قبل انتهاء ولايته، إلا أن القانون نفسه يتيح تغييره في حال ارتكابه للجرائم، أو عندما يثبت عدم اهليته للقيام بواجباته. وإذا جاز التغاضي عن كل ارتكاباته، فإن مسودة الخطة المالية، وخاصة لجهة تحديد خسائر مصرف لبنان، هي دليل على ان سلامة لا يتمتع بالكفاءة اللازمة للاستمرار في عمله. الاولوية يجب ان تكون لإقالته من منصبه، والبدء بمحاسبته. هذه بديهية. ولانه يعي تماماً خطورة ما ورد في مسودة الخطة، أصدر سلامة أمس بياناً يزعم فيه ان خسائر مصرف لبنان ليست خسائر. تعمّد الإكثار من استخدام تعابير تقنية وقانونية، ليقول إن المصارف المركزية في العالم (ذكر كأمثلة الولايات المتحدة الأميركية والمصارف المركزية الاوروبية وكوستاريكا والبيرو وتايلند...) ترحّل خسائرها إلى السنوات اللاحقة، إذ ستكون قادرة على تعويضها. قال بوضوح: «لا يعتبر مصرف لبنان أن هذه المبالغ هي خسائر. فهي مبالغ مدورة ومطفأة بمداخيل مستقبلية». لكنه لم يذكر مصدر المداخيل تلك، متجاهلاً واقع الانهيار، وما ورد في الورقة المالية الحكومية: إن خسائر مصرف لبنان تفوق مجمل الناتج المحلي اللبناني، و«هو ما لا يمكن مقارنته بأي حالة أخرى في العالم»!
خسائر مصرف لبنان تفوق مجمل الناتج المحلي، و«هو ما لا يمكن مقارنته بأي حالة أخرى في العالم»!


2- للمرة الاولى يرد في وثيقة رسمية اقتراح شطب رساميل المصارف، لاستخدامها في تعويض الخسائر. والحديث هنا عن شطب كامل الرساميل، لا جزء منها وحسب، ما يعني، عملياً، نهاية ملكية أصحاب المصارف الحاليين لها. من الثابت ان المصارف اللبنانية مفلسة. لكن المفاجئ هو ورود هذا الاقتراح في وثيقة رسمية، ما يوجب التمسك به، ثم الانطلاق نحو خطوة أخرى لا تقل اهمية: تحميل أصحاب المصارف، بثرواتهم الخاصة، مسؤولية تعويض اموال المودعين التي نهبوها عبر الأرباح الطائلة التي حققوها. وقد نشر الزميل محمد زبيب امس على صفحته على «فايسبوك» جدولاً يُظهر أن المصارف وزّعت أرباحاً على مالكيها بلغت 7.2 مليار دولار في ثماني سنوات فقط (2011 - 2018)، هي الفترة الاكثر قتامة في تاريخ الاقتصاد اللبناني، والتي وُضعت فيها أسس الانهيار الذي ظهر بدءاً من صيف العام 2019. ولإزاحة الانظار عن هذه الوقائع الصادمة لجهة لاعدالة توزيع الثروة والمداخيل، بدأت المصارف هجومها الاستباقي رفضاً لـلـ«هيركات»، وستستكمله ببيان جرى تسريب مسودته امس، تحت عنوان «عن القرش الأبيض واليوم الأسود»، تنكر فيه نكراناً تاماً أي مسؤولية لها عن الانهيار. حتى مسألة حجز اموال المودعين وسرقتها، يتعامل معها بيان جمعية المصارف كما لو انها قضية هامشية، وتتحمّل مسؤوليتها السلطة السياسية. لكن في مسودة البيان عبارة تحمل الكثير من الصدق: «لأن الحل لأزمة السيولة الحادة، كما سببها، هو أولاً سياسي...». ليس أصحاب المصارف ممن يدمجون، في خطابهم، السياسة بالاقتصاد. على العكس من ذلك، هم يفرّقون، كلامياً بينهما. يقولون، كذباً، إن السياسة شيء والاقتصاد شيء آخر. وبناءً على «سياستهم» هذه، يمكن القول ان عبارتهم هي الأصدق، ليس في بيانهم وحسب، بل في «مسيرتهم» كلها. هم يعترفون بهذه العبارة انهم جزء من الادوات التي يجري استخدامها، لخنق البلد اقتصادياً، من اجل تقديم تنازلات سياسية.
3- ما يجب التمسك به أيضاً من مسودة الخطة المالية، هو شطب جزء من الديون. التمسك به، للمطالبة بما هو أكثر: شطب كامل للديون التي تحمّلها لبنان لأسباب خارجة عن إرادة شعبه.
ما يدور حالياً هو معركة تحميل الخسائر الناجمة عن السياسات المعتمدة منذ ما قبل الحرب الاهلية. وكما تحمّلت الفئات الأضعف في المجتمع كلفة تراكم ثروات الذين أثروا، يُراد اليوم تحميلهم عبء الخسائر. هنا لب المشكلة، ولهذا تجري شيطنة مسودة الخطة كاملة، علماً بأن فيها من الشياطين الكثير.