دعا الرئيس نبيه بري الى «قراءة الفاتحة والترحّم على الهيركات كما تمّ الترحّم على الكابيتال كونترول»، لافتاً الى أن «الأمور إذا سلكت طريقها الطبيعي يمكن الإنقاذ رغم أنه ليس سهلاً وليس مستحيلاً». وشدد على «وجوب السير بالإصلاحات وإصدار القوانين، شرط عدم المس بأموال المودعين التي هي قدس الأقداس».وقال بري إن هناك عدة أمور «يمكن اللجوء إليها، من مكافحة الفساد وسدّ أبواب الهدر والحسم من الفوائد وضخ سيولة جديدة بعد دمج المصارف وتنقيتها. هذه إجراءات وأفكار لا يمكن حتى لصندوق النقد الدولي أن يرفضها».
ثلاثة عناوين طرحها رئيس المجلس: الكابيتال كونترول، الهيركات وأفكار إصلاحية لا يرفضها صندوق النقد.
لنبدأ بالكابيتال كونترول. هل يمكن لمودع اليوم في لبنان تحويل أمواله الى الخارج؟ طبعاً لا. القانون لا يمنع المصارف من إجراء التحويلات، لكن واقع الحال يقول العكس، إلا ضمن ظروف محددة. ويمكن إدراج تعابير مثل المحسوبية والواسطة والاضطرار إلى الأموال التي يجري تحويلها. لكنّ الأرقام الموجودة لدى مصرف لبنان، لا تشير الى تحويلات جدية خلال الأشهر الخمسة الماضية.
عملياً فإن الكابيتال كونترول قائم.
لننتقل الى الهيركات. إذا كان لديك وديعة اليوم بتسعة ملايين ليرة لبنانية في مصرف محلي، فهي كانت قبل انهيار سعر الصرف تساوي ستة آلاف دولار أميركي. أما اليوم فهي تساوي ثلاثة آلاف دولار أميركي، أي إنها خسرت نصف قيمتها العامة، وهي أصلاً فقدت نحو نصف قيمتها الشرائية نتيجة ارتفاع الأسعار، ما يعني أن قيمة الودائع الموجودة بالليرة اللبنانية فقدت نصف قيمتها فعلياً. أما الموجودة بالدولار، فهي محجوزة أصلاً، والحصول عليها يتطلب سنوات عديدة. وفي حال قرر صاحبها استبدالها بالليرة اللبنانية، فهو سيخسر أيضاً نصف قيمتها على الأقل. في جميع الحالات، فإن الهيركات وقع.
أما في ما خصّ الخطوات الإصلاحية التي لا يمكن لصندوق النقد رفضها، فإن الرئيس بري تحدّث بصورة عامة وأعاد تكرار العناوين الخاصة بمكافحة الهدر والفساد. لكنه أشار الى إصلاحات في القطاع المصرفي، وانتهى الى تأكيد أن مثل هذه الإصلاحات لا يمكن لصندوق النقد رفضها، أي إن رئيس المجلس يُقرّ، كما غالبية القوى النافذة في البلاد، بأنه لا بديل من صندوق النقد الدولي. وعادة، عندما تأتي حكومة على سيرة صندوق النقد، يعني أنها تحتاج إلى أن تستدين أموالاً جديدة. فهل هذه هي مصلحة البلاد الآن؟
بالتأكيد لا. ما يعرفه رئيس المجلس من موقعه السياسي والتشريعي أن البلاد تحتاج الى نقطة انطلاق جديدة، اسمها «قواعد تفكير وآليات عمل جديدة». وهي قواعد غير ممكنة في ظل موازين القوى الحالية. أي إنه طالما لا يقدر الشعب على قلب الطاولة، فإن المحتاجين الى تغيير ينتظرون أن يحصل من داخل النظام. وهذا يتطلب اقتناعات عند القوى القادرة على إحداث فرق. وبري يمثل رأس حربة في هذه القوى. وإذا ما اقتنع رئيس المجلس، قبل أي أحد آخر، بضرورة قلب الطاولة، فهذا يعني أنه سيكون مستعداً لتحمّل حصته من الخسائر التي أصابت البلاد. وهي خسائر تصيب قوته السياسية ونفوذها، وتصيب كتلته الاجتماعية وقدراتها العامة، وتصيب أيضاً تحالفاته الداخلية على وجه التحديد. وإذا كان من حق رئيس المجلس أن يشكّك في حرص الشركاء الآخرين على (وسعيهم إلى) تقديم التضحيات المطلوبة، ما يجعله شديد الحذر إزاء ما يقومون به، ولا سيما التيار الوطني الحر، فإن الرئيس بري يملك مفتاحاً ذهبياً لأخذ الأمور صوب معالجات جديدة. وهذا المفتاح اسمه حزب الله.
أما آن وقت النقاش في تغيير قواعد اللعبة تماماً، وعندها سيكتشف برّي أن لبنان في غنى عن صندوق النقد؟


كل ما نعرفه، منذ زمن بعيد، أن حزب الله لن يقدر على قلب الطاولة داخلياً. ليس لديه مصلحة في ذلك أصلاً، كما ليس لديه رغبة. ثم هو لا يريد تحمّل عبء انقلاب بهذا الحجم. وليس في البلاد من حلفاء حقيقيين للحزب في معركة تغيير شاملة. حتى القوى التي لعبت دوراً مركزياً في انتفاضة 17 تشرين الاول، تناصب الحزب العداء، وقبلت بمعظمها النيل من دوره، حتى في المقاومة. والحزب هو أقرب - واقعياً - الى فكرة التغيير من داخل النظام. حزب الله أقرب الى السياسة التي تقول بتغيير سلوك النظام لا بتغيير النظام.
لكن الحزب لا يملك الحق في استخدام إشارة الانطلاق. هو سيكون في مقدمة صفوف هذه القوى إن أرادت التغيير الفعلي. ومشكلة الحزب هنا أنه أسير ما يقوم به الحليفان الأقرب اليه: الرئيس بري وحركة أمل، والرئيس عون والتيار الوطني الحر. وطالما لم يجد التيار والحركة ما يدفعهما الى تفاهم واقتناع بضرورة التغيير الشامل والبدء بتقديم التنازلات، فسيكون من الصعب على الحزب التقدم الى الأمام، اللهم إلا إذا وجد طريقاً آخر لإدارة المعركة. لكن المؤشرات لا تقول بذلك.
بهذا المعنى، يمكن العودة الى ما قاله الرئيس بري أمس. المهم ليس وضع الفيتو على هذا المقترح أو ذاك، علماً بأن وزير المالية متورّط في كل هذه الأبحاث وكل هذه النقاشات وكل هذه الأخطاء. ووزير المالية إنما يمثل الرئيس بري أولاً، ويمثّل الثنائي الشيعي ثانياً. وبالتالي، فإن الأهم من وضع الفيتو، هو الدفع باتجاه تغيير ممكن مع حكومة الرئيس حسان دياب. والأخير يحتاج الى قوة الدفع هذه، ليكون بمقدوره الشروع في تغيير يشمل أولاً العقلية والأدوات، قبل أن ينتقل الى البرامج والقوانين.
أستاذ نبيه: أما آن وقت النقاش في تغيير قواعد اللعبة تماماً، وعندها ستكتشف أن لبنان في غِنى - أقلّه لعقد من الزمن - عن قروض (وشروط) صندوق النقد أو غيره؟