بثّ تلفزيون لبنان، أخيراً، حصة تجريبية للتعليم عن بعد لأحد صفوف الشهادة الرسمية، تشبه حصة صفّية في يوم تعليمي أكاديمي عادي، يستخدم فيه المعلّم اللوح التفاعلي لشرح الأهداف التعليمية، كما يفعل أي مدرّس يستخدم الوسائط الناشطة.ومع أنّ العمل يحمل توقيع وزارة التربية والمركز التربوي للبحوث والإنماء (بقدر حجم البانر الذي ظهر على الشاشة)، فقد عُلم أن الوزارة والمركز تبنيا مبادرة التيار الوطني الحرّ وهيئاته التعليمية وأصدقائه الذين نظموا الدروس - الفيديوهات لدعم التلامذة. وهنا يتأكد، مرة جديدة، عجز الإدارة التربوية عن إنتاج تربية كفوءة وصفوف تعليمية نموذجية للتلامذ من دون الرجوع إلى الأحزاب أو المؤسسات الخاصة. وكأنّ لبنان، بمؤسساته الرسمية، يفتقر إلى هذه الكفاءات الموجودة لدى الجهات السياسية التي تحاول جاهدة الإمعان في بسط سلطتها على التعليم.
في كل الأحوال، لا يعطي الفيديو انطباعًا إيجابيًا عن الصناعة التعليمية اللبنانية مقارنة بما أنجزته بعض البلدان المجاورة، كما يدعو للتساؤل حول نوعية المخرجات لمشروع S2R2 المموّل بقرض ومنح لتطوير المناهج بملايين الدولارات، ولا سيّما أنه جرى أخيراً الإعلان عن الحاجة لثلاثة خبراء ومدير مشروع للتعلّم عن بعد كاستشاريين من موازنة S2R2.
ليس الهدف مما سنقوله عرقلة المبادرة، إنما وضع ملاحظات ضرورية، وتفنيد ما يجب أن يحتويه الفيديو التعليمي وما يجب أن يتلافاه لتحسين الأداء. وهذا يمكن إنجازه بجهد طفيف من خلال خبراء حقيقيين للتعليم الإلكتروني والفيديو والتصميم التعليمي بالتعاون مع المعلمين/ات.
التعليم عن بُعد لا يتم فقط عبر الفيديو، بل هو سياق متكامل تربوي تعليمي، أما ما شاهدناه فهو مجرد حصة تعليمية صفّية من خلال الفيديو.
لا شكّ في أن المعلم/ مقدم الحلقة لديه حضور لطيف ويمتلك المعرفة اللازمة للشرح. لكن، في المبدأ، لا يجب أن تتجاوز مدة الفيديو الـ 15 دقيقة (وليس 29 دقيقة)، باعتبار أن استيعاب التلامذة يختلف بين حصّة يتابعونها بواسطة الفيديو والحصة الصفّية. وهذه المدة مشروطة بمجموعة عناصر أخرى لتغطية النقص التفاعلي في الصفّ، وضعف التركيز من خلال الفيديو، ما يستوجب التنوّع في العرض بين الشرح والتطبيق والأمثلة، لإبقاء القدرة الاستيعابية للمتلقي في حالة يقظة.
أما الفيديو نفسه فقد أتى من دون تمهيد. فلم يعرّف المعلّم عن نفسه، ولم يذكر اسم الصف والمادة والشهادة، ومرّ عنوان الدرس سريعاً، ولم يعرض النقاط الأساسية للدرس بشكل واضح، وأتخم بمعلومات كثيرة يصعب استيعابها بالكامل. كذلك يفتقر الفيديو إلى التنوّع في العرض والإيقاع، إذ لم يستعمل إمكانات وسيط الفيديو لترسيخ المعلومة (كتابة تعريف على الشاشة، معلومة بحاجة إلى ترسيخ في ذهن التلميذ/ة،..). كذلك مرّ رابط من دون كتابته على الشاشة، ولم يتم التذكير بالدرس السابق أو المرتبط به، فيما لا يحفظ اللوح التفاعلي المعلومة الضرورية ويبقيها أمام التلميذ للعودة إليها عند الحاجة، ولا ربط بين المادة والحياة الحقيقية.
وكان لافتاً لوغو الوزارة في الفيديو على لافتتين Banner تحتلان نصف الشاشة تقريبًا كأنهما، وبإصرار، إطار دعائي لشركة أو جمعية، ما يُشكّل تلوثاً بصرياً يؤثّر على تركيز المشاهد ويُشتت الرسالة. كما أن الصوت ضعيف والإرسال متقطّع.
والأهم أن الفيديو يفتقر إلى المنهجية العلمية. فما شاهدناه هو إعادة تصوير وتقديم للكتاب المدرسي مع شروحات إضافية وتلخيص وتكثيف، وهو شبيه جداً بالكتاب ومنهجية الشرح في الكتب، في حين أنّ التعليم من خلال الفيديو أمر مختلف تماماً. وكما يقول الفيلسوف مارشال ماك لوهان: «الوسيط، هو الرسالة» (Le médium, c›est le message)، أي أن الوسيط (الفيديو في هذه الحالة) هو حامل الأهداف التعليمية. لذا يجب إظهار الرسالة بوضوح واستخدام الوسيط/ الفيديو فعلاً لضمان وصول الأهداف التعليمية، أي توظيف الصورة والنصوص المكتوبة والصوت واللون والحركة، والإيقاع ... ليصل الهدف سليماً.
لم يجرِ اعتماد أي منهجية من منهجيات التعليم عن بُعد أو الهندسة والتصميم التعليمي المعتمدة عالمياً في التعليم الإلكتروني أو الفيديو أو عن بُعد، والمنشورة على مختلف المواقع الأكاديمية التربوية. وأبرزها الخطوات التسع للتصميم التعليمي التي وضعها الكاتب الأميركي روبرت غاين، والتي يقترح فيها سياقاً تراتبياً للوصول إلى حلول تعليمية فعّالة، وهي:
- اكتساب انتباه المتعلمين/ات – من خلال محفزّات جاذبة لإشراكهم وتحفيز عقولهم من خلال: نصوص، حزازير، صور، مجموعة أسئلة، تقديم المعلم لنفسه والمادة والصف (أقل من دقيقة).
- اطلاع المتعلّم/ة على الهدف التعليمي للفيديو أو الحصّة - توضيح المخرّجات المرتقبة، مؤشرات قياس (عرض عنوان الدرس أو الهدف...) (أقل من دقيقة).
- تذكير بالدروس السابقة المرتبطة بالدرس الجديد - تحفيز الذاكرة والمعرفة المكتسبة السابقة والبناء عليها. (1.5 دقيقة).
- شرح الدرس أو المحتوى أو (هدف تعليمي واحد) - بأبسط طريقة ممكنة (1.5 دقيقة).
- تقديم التوجيه من خلال أمثلة مبسّطة أو تمارين بسيطة (دقيقتان).
- يستنبط المتعلّم ويطبق تمارين متقدمة مع أو من خلال المعلّم/ة – إشراك المتعلّم/ة في أنشطة وتمارين مختلفة حيث نرشده إلى استخدام القاعدة المكتسبة كما نوجهه إلى تمارين جديدة مشابهة في الكتاب أو الفيديو. (2 - 3 دقائق).
- تقديم مساعدة - من المفيد إعطاء بعض التوجيهات لحالات شاذة أو استثناءات. (دقيقة واحدة).
- التقييم (يحتاج إلى آليات مختلفة غير متوفرة في الظروف الحالية إلا من خلال التواصل مع المعلمين/ات).
- ترسيخ المعرفة المكتسبة - من خلال أمثلة ونماذج واقعية، تلخيص، خلق، رسم... (دقيقة واحدة).
السؤال هو: هل نستطيع دمج هذه المعطيات وتحقيق تعليم بوسائط متعددة، كُفُؤ، ومفيد، وبنّاء؟ نعم نستطيع فهذا العمل والإنجاز يحتاج إلى ثلاثة أنواع من الخبرات والمعارف: تقني تربوي Educational Technologist، مصمّم تعليمي Instructional Designer، وخبير المادة Subject Matter Expert. وهؤلاء متوفرون في لبنان وعملهم يُضاعف نوعية التعليم عن بعد أو من خلال الفيديو كما سرعة الإنتاج وفعّاليته وتطابقه مع الأهداف التعليمية.

*باحث في التربية والفنون