المقاومة والإصلاح‬

  • 0
  • ض
  • ض

لم تزعزع الهزائم والانهيارات الكبرى التي توالت في العقود الماضية قناعة الراحل الدكتور داوود خير الله، المفكر والخبير الدستوري والحقوقي الدولي، بحق العرب في تقرير المصير والعيش الكريم واحتلال المكانة التي يستحقون بين الأمم. الردة الفكرية والسياسية لقطاع واسع من المثقفين والمناضلين «السابقين» في أقطار الوطن العربي المختلفة، لم تزده سوى تمسك بالثوابت الوطنية والقومية، وهو المقيم في قلب الإمبراطوريّة الأميركية العاتية. وإذا كانت إحدى الفرضيات الرئيسية للمرتدين هي ضرورة «فكّ الاشتباك» مع «العالم»، أي الاستسلام للإمبريالية والصهيونية، للتفرغ لمعارك الإصلاح السياسي والاقتصادي الداخلي، ومكافحة الفساد، ولمواجهة الظلامية الفكرية والدفاع عن قيم التنوير، فإن الراحل الكبير، وعلى النقيض من هؤلاء، اعتبر أن هزيمة الصهيونية والتحرّر من التبعية للإمبريالية هما شرطان أساسيان لتحقيق بقية أهداف المشروع النهضوي العربي على المستوى الداخلي والخارجي. لكن إدراكه لمركزية مهام التحرّر الوطني لم يثنه عن المساهمة الفعّالة في الحوارات والمواجهات الفكرية - السياسية الدائرة في الوطن العربي حول قضايا الإصلاح الفكري والسياسي والاقتصادي والنقد الجذري لاستقالة القسم الأعظم من النخب العربية عن القيام بدورها في الدفاع عن المصالح الحيوية لمجتمعاتها. وكان الدكتور خير الله قد أشار في محاضرة بعنوان «أهم أسباب التخلّف والتفكّك الاجتماعي والهزائم العربية»، ألقاها قبل خمس سنوات في «مركز الحوار العربي» في واشنطن، إلى ما يشكل برأيه «مكمن العلة، وبالتالي أهم أسباب حالة الإحباط التي يعيشها العالم العربي ، هي جهل لقيمة أساسية غائبة عن الثقافة السياسية العربية، أي اقتناع المواطن، وبخاصة النخب العربية، بأن عليها يقع عبء حل الإشكاليات ومواجهة التحديات التي تعترضها والتغلّب عليها، وأن يترسّخ لديها وعي عميق لأهمية الربط بين الجهد والنتيجة لتحقيق أي هدف تسعى إليه». وعلى الرغم من إقراره بصعوبة المهامّ المطروحة على عاتق هذه النخب، فإنه يشير إلى ميلها الدائم لتسويغ تقاعسها عبر «تضخيم طاقات القوى الفاعلة والعقبات التي تعترضها، ومؤدّى ذلك كله، بوعي أو بغير وعي، إيجاد المبرّرات لعدم التصدي لها». لقد كان للهزائم المتتالية أمام العدو الخارجي، التي كرّست التجزئة والتبعية، وساهمت في منع بناء دول عربية حديثة وديمقراطية، تداعيات كبيرة على وعي هذه النخب وعلى إرادتها. ولا شكّ في أن تعميم ثقافة الهزيمة والاستسلام في أوساطها كان بين الأهداف المهمة لهذا العدو. داوود خير الله الذي كان مدافعاً عنيداً عن المقاومة في لبنان وفلسطين، سعى أيضاً إلى تعميم روحية هذه المقاومة في أوساط الرأي العام العربي وبين أجياله الشابّة لشحذ الهمم من أجل النضال ضد الطائفية التي وصفها، في مقال نشره في «الأخبار» بعنوان «الطائفية والمستقبل في لبنان وسوريا» (7 آذار/ مارس 2017)، بـ «العلة الأساس والسلاح الأفتك والأفعل في تدمير المجتمع وتفكيكه في كلا البلدين، معوّمة ومفعلة بالفساد». وهو كان قد كرّس العديد من مقالاته لمسألة مكافحة الفساد وبين أبرزها «الفساد ومعوقات التطور في الوطن العربي»، المنشور في الكتاب الصادر عن «المنظمة العربية لمكافحة الفساد» بعنوان «الفساد وإعاقة التغيير والتطور في الوطن العربي». لم يهمل خير الله أيضاً الجبهة الفكرية، فهو يعتقد أن تجذّر الطائفية في الوعي العربي يعود بين أسباب أخرى إلى سيادة تأويل متحجّر وظلامي للدين ساهمت في ترويجه الأنظمة والقوى التي لها مصلحة في تغذية وتوظيف الانقسام الاجتماعي الذي ينجم عنه. وهو دعا في كتابه الأخير، «من أجل غد واعد» (2016)، للعودة إلى مساهمات المصلحين الكبار، من أمثال عبد الرحمن الكواكبي وخالد محمد خالد، اللذين قدما تأويلاً مختلفاً للإسلام، في مقابل كتابات فقهاء كمحمد بن عبد الوهاب أو أبو الأعلى المودودي. لقد بقي الدكتور داوود خير الله متمسكاً بالأهداف الرئيسية للحركة القومية العربية، ومؤمناً بالصلة العضوية بين إنجاز الاستقلال الحقيقي والوحدة، وبين الإصلاح والتنوير.‬

0 تعليق

التعليقات