لا تشبه الضاحية الجنوبية نفسها هذه الأيام. الحركة فيها تكاد تكون معدومة والشوارع شبه خالية. محال بالجملة أقفلت أبوابها. مقاه ومطاعم ونواد رياضية خلت من روادها، ملتزمة بقرار الإقفال. لا شيء على حاله هناك، فالخوف من «كورونا» يعيد إلى الذاكرة الفترة التي عاشتها الضاحية أيام التفجيرات الإرهابية عام 2014.خلت الشوارع، إلا من بعض المارة الذين «تسلحوا» بالكمامات والقفازات، فيما التزم كثيرون بيوتهم في عزلة باتت هي سلاحهم الوحيد في وجه الفيروس، بينما فضّلت فئة ثالثة المغادرة إلى القرى، بعدما خرجت الأمور عن السيطرة. ولأن «حياة الإنسان أهم من كل شيء وكله يعوّض»، وفق «أبو سعيد» صاحب محل أدوات منزلية في حي ماضي، كان القرار بترك «الرزقة ع الله». أنزل الأخير باب «الكاراج» وغادر وزوجته إلى قريتهما في الجنوب.
لم يعد في الضاحية ما يشير إلى الحياة سوى بعض محال الخضار والتعاونيات الكبرى والصيدليات وعدد ضئيل من بائعي الخضار على العربات. أحمد، واحد من هؤلاء الذين لم يتركوا الشارع لأن «لقمة العيش تفرض علينا ذلك». مع ذلك، حاول قدر الإمكان الالتزام بالتعليمات، فوضع عبوة معقّم إلى جانب أقراط الموز المتراكمة فوق العربة، «منها بنعقّم ومنها بنشجّع الناس على الشراء ولا تتكدس البضاعة وتتلف». أما بعض سيارات الأجرة والفانات والباصات العمومية، فلم تكن لتحظى بركاب، بسبب التحذير من سهولة انتقال الفيروس من خلال المواصلات العامة. «تراجع العمل حوالى 90%. الخط مات»، يقول أحد سائقي الفانات، و«الراكب بمثابة العملة النادرة هذه الأيام».
مع ذلك، ثمة ما يقلق، مهدّداً بكسر حلقة التدابير الاحترازية، خصوصاً في ظل ما يجري في التعاونيات والاستهلاكيات الكبرى، ،حيث «تكدّس» الزبائن، في اليومين الماضيين، لتموين حاجياتهم من السلع الغذائية والمنزلية تحسباً للأسوأ. في إحدى التعاونيات في سوق معوض، كانت عائلات بأكملها تشتري حاجياتها رغم التحذيرات من الاكتظاظ، فيما لم يلتزم الموظفون داخلها بتعليمات وزارة الصحة العامة، حيث لا وجود لمن يرتدون الكمامات، رغم تواصلهم اليومي مع مئات الأشخاص. وهو ما دفع البلديات أمس إلى اتخاذ إجراءات عقابية بحق البعض. وفي هذا الإطار، أغلقت بلدية الغبيري تعاونية «رمال الأصلي» قرب روضة الشهيدين لعدم التزامها بالمعايير الصحية المطلوبة لناحية تعقيم الأغراض وحماية الزبائن.
على مقربة من «تعاونية» سوق معوض، تقع واحدة من أكبر الصيدليات في الضاحية التي تشهد إقبالاً كثيفاً في العادة. هي الأخرى لم تتخذ الإجراءات الكافية لمنع الازدحام ولا حتى لتنظيم الدخول إليها. فجل ما يمكن ملاحظته هو ارتداد بعض العاملين للقفازات، وهي إجراءات ما دون الاستنفار المطلوب للحدّ من تفشّي الوباء. ليست هذه حالة «شاذة»، ففي كل يوم ثمة شكاوى على بعض الصيدليات التي لا تلتزم بإجراءات التعقيم. والمضحك هنا أن في بعض تلك الصيدليات، من يعطي المريض الدواء والكمامة هو نفسه من يحاسبه على الصندوق، من دون أدنى اعتبار لما تحمله النقود من قدرة على نشر الجراثيم، ومن بينها فيروس كورونا.
لم يعد ما يشير إلى الحياة سوى بعض محال الخضار والتعاونيات الكبرى والصيدليات


مع انطلاق خلية الطوارئ للحد من انتشار كورونا في الضاحية، بدأت البلديات تسيير دوريات عديدة، بدوامات نهارية وليلية، لمراقبة المحال المخالفة. لكنها، إلى الآن، ليست كافية لضبط كل تلك المخالفات. ويعزو رئيس الخلية، عضو اتحاد بلديات الضاحية زهير جلول، الأمر إلى أن «عديد الدوريات في كل بلدية قليل، لكونه مقسماً على ثلاثة دوامات، ما يعني أن التغطية الميدانية لا تكفي لمراقبة الإقفال وضبط المخالفات بشكلٍ تام، لا سيما أن الضاحية تضم عدداً هائلاً من المقاهي والاكسبرسات والمطاعم والملاعب وغيرها من أماكن التجمعات». لهذا، «نعتمد في خلية الأزمة على شكاوى المواطنين من خلال اتصالاتهم على الرقم الساخن، للإبلاغ عن المؤسسات التي لم تلتزم». مع ذلك «تتجنب الخلية تسطير محاضر الضبط حالياً، لأن الناس لا تتحمل الغرامات»، وتعتمد بدلاً من ذلك على السعي لـ«رفع درجة الوعي للدفع نحو مزيد من الالتزام ».
على جانب آخر، يحتدم النقاش بشأن المدة التي يستوجبها الإقفال، وإذا ما كان في إمكان المواطنين احتمال قرار طويل كهذا، خصوصاً أن مصدر عيش الكثيرين يعتمد على العمل اليومي. وحتى لا تكون الوقاية الصحية سبباً في ضرب الأمن الاجتماعي، لا سيما أن الناس يعانون من جراء الانهيار الاقتصادي، الباب مفتوح أمام «المبادرات المجتمعية»، في ظل عجز الدولة عن القيام بدورٍ منوطٍ بها. وفي هذا الإطار، يقول جلول إن «الهيئات الاجتماعية في حزب الله وحركة أمل لديها إحصاء شبه دقيق عن الأسر الفقيرة في كل بلدية ويمكن العمل هنا على المساعدة، إلى جانب التعويل على التكافل الاجتماعي، كما إعادة الزخم لمائدة الإمام زين العابدين التي توزع في شهر رمضان من كل عام اللحوم والخضر والفاكهة والحصص التموينية على الأسر الفقيرة». لا يجد جلول تعبيراً لوصف هذه الحال سوى القول إنها «حرب، وعلينا بالصبر والتعاون حتى نخرج منها بأقل خسائر ممكنة».