هناك شبحٌ يرهب الطبقة الحاكمة في لبنان، هو شبح الانهيار المالي. وفي لحظاتٍ كهذه، نتذكّر الامثولة التي تعلّمناها من سقوط حسني مبارك عام 2011، حين ابتهجنا واعتبر العديد أنّ سقوط زعيمٍ بحجم مبارك هو النّصر الكامل ومنتهى الظّفر. الصّوت الّذي لم يحضر بما فيه الكفاية يومها، أو قمعناه وسط صدمة السّقوط، كان يقول «ما بالك تحتفل كأنّك انتصرت؟ انت لم تفعل شيئاً بعد. لا أخذت البلد في اتّجاه جديد، ولا حسمت أيّاً من القضايا الأساسية في السياسة والاقتصاد». بمعنى آخر، ارتكبنا خطأً شائعاً هو الاستهانة بقدرة منظومة القوّة على إعادة تكوين نفسها، حتّى إن تعرّضت لأزمةٍ أو ضربةٍ وهزّة. ومثلما كان من السّهل - في غيابٍ بديلٍ يفرض نفسه - أن تحصل على مباركيّة من غير مبارك (أو على نسخةٍ منها أكثر سلطوية وشمولية وتطرّفاً في سياساتها)، وأن يعتبر الكثير أنّها «الخيار الأفضل» من بين ما هو «متاح»؛ فإنّ المنظومة المالية - السياسية في لبنان التي صمدت عبر صروف الدّهر وعوادي السّنين، وتعايشت مع غزوات وحروبٍ أهليّة وتقسيم، (وكانت في كلّ مرّةٍ تعود أكثر قوّةً وحجماً والتصاقاً بالرعاة الخارجيين) لن تستسلم وتقع من تلقاء نفسها مهما كانت ازمتها عميقة.
أن تتصدّى للنموذج
المشكلة في الخطاب الذي يختصر المشكلة اللبنانية بـ «الفساد» لا تتلخّص في أنّه تبسيطيّ فحسب، بل هو ايضاً يخفي الجذر الحقيقي للأزمة ويصادر أفق الحلول الممكنة. لغاياتٍ معيّنة، يمثّل خطاب «مكافحة الفساد» أداة سياسيّة فعّالة: اتّهام سياسي\ أخلاقوي (من، من النّاس الطبيعيين، يمكن أن يقف «مع الفساد» أو ضدّ اجتثاثه؟)، يعطي تفسيراً واضحاً لمشاكل النّاس وحرمانهم، لغةٌ يحبّذها المجتمع الدّولي ومنظّماته؛ ولكنّه ايضاً يسمح لك بأن تبدو جذرياً و«ضدّ النّظام» من غير أن تتحدّاه في العمق. من الأسهل كثيراً أن تقول إنّ مشكلتنا في لبنان هي الفساد والفاسدون، وانّها تحلّ باستبدالهم وجلب طاقمٍ جديدٍ «نظيفٍ» الى الحكم، من أن تقول إنّ «النّموذج» المالي الذي سيّر لبنان بعد الحرب الأهلية قد وصل الى نقطة الكارثة و«التدمير المتبادل» بينه وبين المجتمع، امّا نحن أو هو. الخيار الثاني يفرض عليك - أوّلاً - أن تعزم على التحرّر من هذه المنظومة، مع كلّ ما يرافق ذلك من كلفةٍ على الطبقات الحاكمة، و - ثانياً - أن تطرح بديلاً بالمعنى الحقيقي، والّا فأنت تسعى الى استمرار النموذج بوجوهٍ جديدة.
كيف نشرح المسألة؟ فلنأخذها على الشّكل التّالي: حتّى لو لم يكن هناك أيّ «فساد» في لبنان خلال العقود الماضية - لا مناقصة مشبوهة ولا عقود وهمية ولا توظيف محاسيب ولا استغلال نفوذ. من غير أيّ سرقةٍ أو هدر، طالما أنّ الاقتصاد يقوم على النموذج ذاته للدّين المتضخّم (الدّولة تستدين من المصارف بأضعاف المعدّل العالمي للفائدة، وهذه الفوائد تصبح بمثابة «الانتاج» في لبنان، توزّعها الدولة على المصارف، والمصارف تحوّلها الى ودائع، وكبار المودعين يحوّلونها الى عقاراتٍ واستهلاك)، فإنّنا كنّا سنصل، وإن بعد سنوات، الى النّقطة ذاتها التي نقف فيها اليوم. هذا النموذج «التمويلي» - اقتصاد المضاربة بالدّين - هشٌّ بطبيعته، سواء تمّ تطبيقه على مستوى عالمي أو على مستوى بلدٍ صغير، وهو مهدّدٌ باستمرار بتحويل أي أزمة أو كبوة فيه (ولو بسبب فيروس) الى «أزمة بنيوية» (systemic) تقوّض المنظومة بأكملها. فكيف حين تطبّقه على الطريقة اللبنانية؟
من جهةٍ ثانية، الكلام على «الفسادج بعموميّة ومن دون أرقام واتهاماتٍ واضحة لا يفيد بشيء، وتستوي فيه الاشاعة مع الحقيقة طالما أن هناك سريّة مصرفية والمسؤولين والمتهمين يحتمون خلف غلالةٍ من الجهل، لا يمكن أن نعرف ماذا يملكون وكم - وما معنى أن تستمرّ السرية المصرفية، أو أن لا يتم تعليقها مؤقتاً، في مثل هذه الظروف؟ لن تحصل محاسبة قبل أن تكشف الحسابات كلّها للعموم، ويُتاح لنا أن نبحث في أرقامها، ونعرف - فعلياً - كم راكم هذا المسؤول وذاك الموظّف وهذا الضّابط مع عائلاتهم، ومن اين أتت هذه الأموال (وسنعرف ايضاً، بالطبع، عن قنوات التمويل الخارجي وحجمه والمستفيدين منه)، ومن هنا يبدأ نقاش الفساد، لا من مقولة «كلّهم حرامية». بالمختصر، هذا الخطاب سينتهي بنا الى معاقبة حفنة من الموظّفين، وكشف قضية هنا ومخالفة هناك، أو ملاحقة قروض اسكان أخذت بلا وجه حقّ؛ ولكنّ اهدار الثروة الوطنية، وأسر البلد في دورة استدانةٍ ربويّة، أو تهريب المليارات الى الخارج في السنة الماضية، هذه كلّها تكون أمورٌ قد جرت «بالقانون» وليس فيها ما يستدعي المحاسبة.
يجب أن نتذكّر على الدّوام أنّ أقوى لوبي في لبنان اليوم هو «لوبي كبار المودعين»، وهو يتجاوز الاصطفافات السياسية ويخترقها. حين تستمع الى سياسي أو اعلامي أو خبير ينظّر في «حلول الأزمة»، يجب أن تتذكّر قبل كلّ شيء أنّ ثروة هذا الانسان - ومن حوله ومن خلفه - حبيسة المصارف اللبنانية، وهؤلاء الناس يجمعهم حاليّاً همُّ وهوسٌ وحيد: استرداد أموالهم، أو ما أمكن منها. هذا مفهوم «الخروج من الأزمة» بالنسبة اليهم، وهو يستلزم انقاذ «النموذج» بأي كلفة، وهذا أهم لديهم في هذه اللحظة من السياسة والوطنيات ومصلحتنا الجماعية وكل شيء آخر.

قصّ الشّعر وقصّ الأعناق
على عكس ما يتصوّر الكثيرون، لا يوجد أيّ امتيازٍ في أن يصدق توقّعك وأن تكون محقّاً في استشراف «أمورٍ مزعجة» مثل الانهيار المالي والافلاس المعمّم، فأنت حين كنت تقول هذه الأمور لم يستمع اليك أحد، وحين تبدأ الكارثة بالتحقّق، يصبح الجميع مصلحاً اقتصاديّاً يتحدّث عن «اعادة هيكلة الدين» و«قصة الشعر» - بمن فيهم فؤاد السنيورة. هنا تحديداً تقع المشكلة، فالكثير من الحجج التي تقدّم اليوم ليست نزيهة، بل هي جزءٌ من المناورة التي ينفّذها لوبي كبار المودعين لانقاذ منظومته على حسابنا. حين يتكلّم مصرفيّ أو رأسمالي كبير على ضرورة «قصّة الشعر» على الودائع أو تجميد الفائدة على الدّين العام، فهذا لا يعني أنّه كان يعتاش من هذا النظام، بلا نقديّة واحتجاج طوال العقود الماضية، ثمّ استيقظت فيه فجأةً روح الاشتراكية والمسؤولية الجماعية وأصبح همّه توزيع الخسائر بعدل. هم يتكلّمون على هذه الاجراءات لأنّهم يعرفون أنّ أكثر الودائع قد ضاع بالفعل والأمر أصبح خلفنا، وأنّ التضحية بالقليل أصبحت معبراً اجبارياً للحفاظ على ما تبقّى. بمعنى آخر، هم يريدون أن يبيعوك «قصّة الشعر» ولكن مقابل ثمنٍ أكبر بكثير: تخفيضٌ على الودائع مقابل انقاذ المصارف وكبار المودعين، اعادة هيكلة الدّين العام مقابل أن نستمرّ بدفعه الى الأبد.
هم ايضاً يريدون «تدويل» هذه العملية، ومن هنا هوس النّخب اللبنانية مؤخّراً بصندوق النقد الدولي والترويج له في الاعلام كقدرٍ محتوم، وهو ايضاً يفسّر مسارعة المصارف اللبنانية الى بيع سندات «يوروبوندز» الى أجانب، حتّى يكون هناك اشراف وضمانة دولية على اعادة ترميم المنظومة، ولا تكون هناك امكانية لـ«انقلاب مالي» عليها في الداخل. الصفقة التي يقدّمها هؤلاء أصبحت معالمها معروفة: تخفيض في انفاق الدّولة، رفع الدعم عن الكهرباء، تخصيص وبيع القطاعات العامّة، الخ… والهدف هنا هو خفض العجز في الميزانية العامّة - حتى نتمكّن من دفع الديون وتعويم المصارف وفق جدولٍ جديد. هذا الحلّ يعني ببساطة «قصّ الشّعر مقابل قصّ الرّقاب»، أي أنّ كبار المودعين سيخسرون نسبةً من أموالهم التي كنزوها، فيما فئات كاملة في البلد ستنزلق الى الفقر والحاجة: مداخيلها أكلها التضخّم، ارتفعت عليها فواتير الطاقة والخدمات، وازدادت الرسوم والضرائب. هذا سيكون شكل البلد بعد سنواتٍ قليلة على «اعادة الهيكلة»، أساليب صندوق النقد ومطالبه معروفة، والأمر هذه المرّة لا يحتاج الى تنبّؤٍ واستشراف. الميزان التجاري وموازنة الدّولة لن تعتدل لأنّ اقتصادنا أصبح «منتجاً» وخرج الى نموذجٍ جديد، بل لأننا أصبحنا فقراء وأجورنا منخفضة الى درجة أننا لا نقدر على الاستهلاك.
إن كانت «ضرورة» صندوق النقد وبرامجه تعود الى أنّه سيمدّنا بالقروض والسيولة، فالسؤال الحقيقي هو لماذا سنُعطى هذا المال؟ إن كان من أجل دفع الدّين فنحن لا نريده. أيّ اعتماداتٍ من صندوق النقد وغيره ستكون قيمتها أقل بكثير من فوائد الدّين الذي يريدون منعنا من التحرّر منه. والمليارا دولار (أو ثلاثة أو أربعة مليارات) التي نأمل - في أحسن الأحوال - أن تصل الينا سنوياً لكي نغطي نفقاتنا والاستيراد يرسل الينا المغتربون أكثر منها، إن عرفنا استخدامها، وهم يرسلون اليك المال بلا شروطٍ ولا قيود، فقط لأنّك انجبتهم. وإن كان البعض يروّج لـ«الخبرة التقنية» الفائقة التي تملكها هذه المؤسسات الدولية، والتي لا غنى لنا عنها، فإن عليهم اختيار حجّةٍ أفضل. لمن لا يعلم: الكثير من سياسات الحكومة اللبنانية قد جرت تحت اشراف هذه المؤسسات وخبرائها، البيروقراطية اللبنانية الفعّالة التي ترونها حولكم قد خضعت لبرامج تحديث وتدريب وهيكلة من تمويل البنك الدولي. وهذه المؤسسات ليست جمعيّات خيريّة، بل أدوات سياسية وايديولوجية قبل أيّ شيء، توصياتها وشروطها معروفة سلفاً (وهي تتناقض مع كلام الكثيرين عن «الانتقال الى الاقتصاد المنتج» وتنمية الصناعة والزراعة وباقي الشعارات التي يتم سوقها مجّاناً هذه الأيام).
ولو انّك دخلت، مثلاً، الى مكتب مدير قسم الشرق الأوسط في صندوق النّقد اليوم، فإنّك لن تجد سوى وزير ماليتنا الأسبق - السيد جهاد أزعور - جالساً هناك، وليس «سوبر كمبيوتر» أو «سوبر خبير» يملك حلولاً لم نحلم بها (وأنا لي تجربة شخصية مع هذه المنظمات، حين كنت طالباً في الخارج اتفقت مع مديرٍ في البنك الدولي على ترجمة مجموعة وثائق وبيانات، ثمّ حاول أن يتملّص وألّا يدفع أجري - والوثائق كانت عن الأردن، بالمناسبة، اذ كانوا يخططون يومها، في اوائل الالفينات، للاصلاحات وللنموذج الاقتصادي الباهر الذي نجده في البلد الآن).
المعادلة التي اقترحها بديلاً بسيطةٌ للغاية، يمكن أن تسمّيها معادلة 80\20: فلنفترض اسوأ سيناريو، أنّ 80 في المئة من ودائع المصارف قد ضاعت الى غير رجعة، وأنّ عشرين في المئة منها سيعود (وهذا يعني فعليا احتياط المصارف الاجباري لدى مصرف لبنان، اضافة الى حساباتها في الخارج، اضافة الى اصولها وقروضها في السوق الداخلي). هذا يكفي لاسترجاع كلّ ودائع الطبقة الوسطى والحسابات حتى سقفٍ يصل الى مئات آلاف الدولارات، وحسابات الضمان الاجتماعي والنقابات، ولن يخسر فعلياً سوى العشرة أو العشرين في المئة في «الأعلى»، فيما الخسارة الحقيقية ستقع على فئة «الواحد في المئة» الذين يملكون أكثر الودائع. هذا ما يمكن فعله بالأموال الموجودة حقّاً واليوم. مقابل ذلك، يتمّ تصفير الدّين العام بالكامل: لن تكون علينا دفعات وفوائد، لا هذه السنة ولا في السنوات المقبلة، وسيتاح لنا وقتها أن ننصرف الى التحكّم بانفاق الدولة، وإعادة تأسيس القطاع المصرفي، وبناء احتياط المصرف المركزي، والتخطيط لسياقٍ اقتصادي جديد. هذه ليست خطّة أو حلّاً، ولكنّها المدخل الوحيد الممكن لحلٍّ يقينا الفقر والاستعباد، وهو المعنى الحقيقي لـ«التوزيع العادل للخسائر». يمكن أن يقال الكثير في الحالة اللبنانية ولكنّ السؤال المركزي يظلّ سؤال الدّين العام، العمود الأساس للنموذج اللبناني، ومنه تتفرّع بقية القضايا والحلول.

كي لا تُعاد الدّورة
تتنازع المؤسسة السياسية في لبنان، والأذكياء من بين السّاسة، تناقضٌ أساسي هذه الأيام: بين رغبتهم - كـ«كبار مودعين» - بأن نصل الى صفقةٍ على طريقة صندوق النقد، تجدّد نموذج الاستدانة وتعيد ودائعهم ومعها سلطتهم الاجتماعية، وبين فهمهم بأنّ الاجراءات اللازمة لهذا السيناريو ستجعلهم يفقدون أي شرعية في الشارع. هذا ما يجعل النخب السياسية تتبادل الأدوار اليوم، بين «الثوري» و«المحافظ»، وبين من يهاجم المصارف ومن يعتبر أنّها ضحيّة (والكثير مما جرى في لبنان، في الأشهر الأخيرة، كان عبارة عن «لعبة أقنعة»: بدل أن يصرخ القوّاتي في وجه العونيّ باعتباره قوّاتيّاً والثاني عونياً، مثلاً، يصرخ عليه باعتباره «ثورة» والآخر «سلطة». الأجندات القديمة تظهر باسمٍ جديد ولكنها تعبّر عن المصالح نفسها، وليس فيها شيءٌ «ثوريّ». والتحالفات و«الشلل» تعيد تموضعها وتظلّ شبكات المصالح - والصداقات والعداوات - هي ذاتها. هذه اللعبة قد يندمج فيها الناشطون والنخب، ولكنها تُبعد الناس العاديين).
الكثير من الحجج التي تقدّم اليوم جزءٌ من المناورة التي ينفّذها لوبي كبار المودعين لانقاذ منظومته على حسابنا


حتّى في حالة حزب الله، وهو من يفترض به أن يكون الأقلّ حرصاً على المصارف ونظامها، كانت لدي شبه - نظريّةٍ في تفسير موقفه تفيد بأنّ قيادة الحزب قد استنتجت، منذ زمنٍ، بأنّ الانهيار قادمٌ ولا رادّ له، وأن خطابهم السياسي في الفترة الماضية كان بمثابة «القاء حجّة» - أي أن يظلّوا «ايجابيين» و«متعاونين» حتى لا يتمّ اتهامهم، حين يحصل الانهيار، بأنهم من تسبّب به. الّا أن الفترة الماضية أثبتت بأنهم مقتنعون حقّاً بامكانية ايجاد «حلٍّ» تتوافق عليه المؤسسة ويقينا الانهيار (وإن كنت لم أحصل على خريطة طريق مقنعة تشرح كيف نصل الى هنا).
الأساس هو أن نفهم أنّنا لسنا أمام أزمة «عاديّة»، وأن نفهم معنى سقوط النموذج الاقتصادي الذي كنّا نعتاش عليه، وأنّ لذلك كلفة لا يمكن التهرّب منها. لا يوجد حلّ «تقني» لمشاكل لبنان، ومن يتكلّم عن التحوّل الى «الاقتصاد الانتاجي» كأنّه أمرٌ يجري بكبسة زرّ لم يجرّب يوماً أن يؤسس مشروعاً في لبنان. الاقتصاد المنتج يحتاج الى أساسيّاتٍ نحن نفتقدها، وإن حرمنا من الاستيراد بسبب انهيار العملة ونضوب الدولار فإنّنا لن نتحوّل الى هولندا بل الى الصّومال. تريد زراعةً وأغلب ارضك، بعد، ليس فيها ريّ ومشاريع بديهية مثل الليطاني (كان يفترض أن تكون اكتملت منذ الخمسينيات، ونسي الجميع أمرها) لم تنفّذ بعد؟ تريد صناعةً في بلدٍ ليست فيه كهرباء منتظمة وكلفة الطاقة فيه من الأعلى في العالم؟ تريد اقتصاد معرفة وانت لا تستثمر في التعليم، وتحضّر لأجيالٍ من الجهلة وخريجين بلا مهارات؟ من هنا يبدأ النقاش عن «الاقتصاد المنتج»، وهو لا يتوافق مع النموذج اللبناني القائم، ولا مع شروط صندوق النقد، ولن يرغب به أكثر من اعتاد على الرّيع والسلطة في وطننا. على الهامش: حين تحضّر لمشروع مزرعة، تفهم - حقّاً - معنى المياه ولماذا تخوض الدّول حروباً عليها، والفارق بين أن تتوافر لأرضك مياهٌ جارية وامكانات وبين أن تقتصر خياراتك على زراعات منخفضة القيمة وانتاجٍ قليل. في ظروف لبنان اليوم، يتنبّه العديد من الشباب الى أهميّة الانتاج و«العودة الى الأرض»، ويخوض الكثير منهم غمار مشاريع زراعية صغيرة. هم سيقعون قريباً على حجم العوائق والحوافز السلبية التي وضعها النظام الاقتصادي الحالي في طريقهم (مع أننا نبحث في «مشروع المزرعة» منذ سنوات، الا أننا لم ننجز شيئاً ماديّاً بعد، ولكننا تعلّمنا عن آلاف الأسباب التي قد توصل الى فشل مشروعك في لبنان. وحين استمع الى أحد هؤلاء الشباب المتحمّسين يصف لي فكرته هذه الأيام، تكون الثغرة في مشروعه واضحة وساطعة ولكنّه لا يراها بعد. استمع اليهم بصبر ثمّ أتمنّى لهم التوفيق).

المشكلة الكبرى ليست في الانهيار نفسه، بل في «الحلّ» الذي سيأتي بعده، لأنّ «الانهيار» يطال أساساً الواحد في المئة


حين أقول إنّ المشكلة الكبرى ليست في الانهيار نفسه، بل في «الحلّ» الذي سيأتي بعده، فذلك لأنّ «الانهيار» يطال أساساً الواحد في المئة، بينما «الحلّ» سيكون على حسابنا جميعاً (الناس العاديون سيعانون بسبب التضخم وركود الاقتصاد والبطالة، ولكن «الودائع التي طارت» لا تخصّهم وارجاعها ليس مشكلتهم). الموضوع هنا سياسي وليس مالياً. صحيحٌ أن مجرى الأحداث في لبنان قد يقررها في نهاية الأمر السياق الاقليمي والعالمي، كما جرى غالباً في الماضي، وليس العملية السياسية الداخليّة، الّا أنّ للهزيمة أبواباً متعدّدة. قبل أن نسلّم أمرنا ومستقبل شعبنا للخبراء ونفترض أنّ في يدهم مفتاح هذه الأسئلة، فلنتذكّر كيف وصلنا في الأساس الى هنا، وكيف بدأت القصة مع هذا النظام - المسخ الذي يفلس اليوم ويتبرّأ منه الجميع: في بداية التسعينيات، بعد أزمةٍ اقتصاديّة، استنتج الفريق اللبناني - السوري الحاكم أنّه قادرٌ على امساك البلد سياسياً وعسكرياً، ولكنّه لا يملك خطّةً لتسيير اقتصاده وجلب الاستثمارات من الخارج لإعادة الإعمار ومنع الانهيار. كانت الفكرة أن «يوكّل» الاقتصاد الى شخصيّةٍ مختصّةٍ، خبيرةٍ ناجحة، تعرف كيف تبني نموذجاً حديثاً يصبح لمرحلة ما بعد الحرب، وكان اسم هذا الشخص رفيق الحريري.