لا شكّ في أنّ فيروس «كورونا» سبّب ويسبّب قلقاً واسعاً في العالم. وفي بلداننا التي ينخر فيها الفساد والكذب، تضعف ثقة المواطنات والمواطنين بمن المفترض أن يكونوا مسؤولين عن حسن سير البلاد، ويشعر الإنسان بأنّه متروكٌ أمام خطر.وفي غياب القيادة الموثوق بها، تغدو الجماعات البشريّة في ضياع. والقلق الشديد قد يسبّب نكوصاً (regression) لدى الإنسان نحو تصرّفات بدائيّة أو طفوليّة، فينحو إلى إيجاد مخرج من القلق بأيّ طريقة، ولو غير عقلانيّة. فاللاعقلانيّة أكثر احتمالاً على النفس من القلق، لأنّها تعطي شعوراً، ولو زائفاً، بالسيطرة على المصير، فيما القلق يترك النفس في ضياع لا يحتمله الإنسان طويلاً.
أمام ذلك، ليس لدى الجماعات سوى أن تنظّم نفسها بنفسها، لتؤسّس قيادات بديلة لتخفيف الخسائر، وكثقل معنوي، تلجأ إليه الجموع لتأمين نوع من الاستقرار، بفرض المجتمع لذاته كمسؤول عن نفسه. أصحاب الاختصاص لهم أهميّة خاصّة هنا، وفي حالة الانهيار الصحّي فإنّ البديل قد يكون مجموعة طبّية موثوقة تلعب دور السلطة البديلة، تعطي الإرشادات الممكنة، وتحاول التنسيق مع «اللامسؤولين» في السلطة لتخفيف الأضرار واحتواء الكارثة. هكذا مجموعة يُفتَرض أن تُطلّ على الناس بإعلانات دوريّة ومعلومات صحيحة، فتكون المصدر الموثوق البديل عن الدولة المنهارة في فسادها.
وكلّ سلطة بديلة ليست إيجابيّة إلّا إذا اتّبعت أمرين: العلم والاهتمام بالضعيف المهمّش. العلم وحده ليس كافياً. فالذين تابعوا النهب وسبّبوا الانهيار في لبنان كانوا مُحاطين بـ«خبراء» يجب أن ندعوهم باسمهم الحقيقي: مرتزقة، يعملون لمن يدفع أكثر. أمّا الاهتمام بالضعيف من دون علمٍ، فهو مرشّح أن يجنح إلى نشر أخبار واستعمال وسائل مضرّة بالبشر بذريعة الاهتمام بهم، وهذا ما يقوم به متلاعبون بالحقيقة عندما يقدّمون وصفات علاجيّة لفيروس «كورونا» هي هراء كامل.
لكنّ الهراء الأكبر هو ما يتفوّه به بعض رجال الدين: هذا كاهن يقول إنّ «كورونا» لا شيء، وآخر يؤكد أنّ القُربان المقدّس يقضي على الخطيئة فكيف لا يقضي على الأمراض، وثالث يعتبر أنّ الخوف من انتقال الأمراض من استخدام الملعقة نفسها من جميع الحاضرين في القدّاس (عند الأرثوذكس) دليل إيمان كبير، وأيّ شك بذلك هو ضعف، وآخر يعتبر أنّ «كورونا» مُرسَلٌ من الله، ويدعو للقبول به بإيمان كبير! هذا الهراء هو نتيجة خلطٍ بين إرادة الله، وبين الطبيعة المتمايزة عن الله، ولو أنّها خليقته، وخلط شائع في الذهن بين السحر والإيمان. رجال الدين ليسوا خارج خطر هذا الخلط، فالبشريّة واحدة. والكلّ قلقهم واحد. وعدم قدرتهم على احتمال القلق الشديد لفترة طويلة واحد. وخطر نكوصهم إلى طفوليّة ووسائل بدائيّة لتوهّم التحكّم بالمصير واحد. خطر بعض رجال الدين ليس في هذا، ذلك أنه خطرنا جميعاً، بل في أنّهم مقتنعون بأنّهم يريدون أن يقودوا أتباع دياناتهم في كلّ شيء، من دون أن يبذلوا جهداً معرفيّاً في أمور المعرفة (طب، علم النفس...). وحده الأحمق الذي يختال بجهله يمكنه أن «يفتي» في العلوم، من دون أن يبذل جهداً علميّاً، فيقول مثلاً إنّ «كورونا» لا ينتقل في كأس المناولة. وحده الأحمق الذي يختال بجهله وقلّة مسؤوليّته، يمكنه ألّا يقلق على صحّة الناس عندما يجتمعون للصلاة معاً في أمكنة مكتظّة. وحده الأحمق الذي يختال بمعرفته الإرادة الإلهية، يمكنه أن يفتي بأنّ الله يريد «كورونا» لإنسان.
هناك خلط شائع بين السحر والإيمان في المجتمعات جميعاً. ما هو السحر؟ هو أن تعتقد بأنّ مجموعة حركات وطقوس معيّنة ستؤدّي إلى نتيجة معيّنة، وأنّك تستدرج الألوهة إلى أن تعمل لك ما تريد، مقابل أن تعمل لها ما تظنّ أنّها تريده. اللبّ أنّك تستخدم الألوهة لمآربك مقابل أن تقدّم لها شيئاً. هذه عملية تجارية في العمق يلعب فيها الخوف الدور الأكبر. وهي محاولة استيلاء على الألوهة، تحوّل الألوهة إلى شيء. في المقابل، ما هو الإيمان بالله؟ الإيمان، في لبّه، هو علاقة مع الله تؤدّي إلى تحوّل في طريقة حياتك، هنا والآن. شتّان إذاً بين الإيمان والسحر.
الإنسان المؤمن بالله يعتقد بأنّه قادر على الشفاء، وقد يسأله الشفاء، لكنّه لا يعتمد عليه للشفاء، ولا يعتقد بأنّ عملية ما طقسيّة تحتّم أن يتصرّف الله بشكل محدّد. العجائب هي كذلك، لأنّها خارج مألوف الناس وتوقّعاتهم، وشأن الله أن يقوم بأعجوبة في لحظة ما. الأعجوبة هي إطلالة من الله لا تحمي من يُشفى «عجائبيّاً» من المرض مرّة ثانية، ومن الموت. يصلّي المؤمنون لشفاء المرضى، ولكن يستخدمون وسائل الطب الحديث. وقد يتمنّى المؤمن والمؤمنة أعجوبةً، من دون أن يكون ذلك شرطاً للإيمان أو للتصرّف بشكلٍ محدّد، وإلّا تدهورت العلاقة إلى مستوى العملية التجارية. الصلاة للمرضى، واستخدام طقسٍ ما، مثل مسحة الزيت لدى المسيحيين، ليس طبّاً، ولا هو عملية أوتوماتيكية سحرية.
الأديان الإبراهيمية تعتقد بأنّ الله منح الإنسان عقلاً ليستخدمه، والعقل يميّز الإنسان عن الحيوانات (من المؤلم أن يضطرّ كاتب أن يذكّر بذلك). بالعقل، يتقصّى الإنسان حقائق الكون كما هي، وبالإيمان (أو الفلسفة) يقرأ معانيها. الخلط بين الإيمان والعلم ووسائلهما وأهدافهما شائع. لدى المسيحيين جملة في الإنجيل تقول «نحن عاملون مع الله». عبارة عظيمة في كرامة البشر ومشاركة الناس للإله في تجديد هذه الأرض، وتحويلها إلى مكان يُحيي الإنسان في فرح المشاركة، أي تحويلها إلى مكان يمجّد الله، وقد قال قدّيس من القرن الثاني يوماً إنّ مجد الله هو الإنسان الحيّ.
المؤمن بالله قد يسأله الشفاء لكنّه لا يعتقد بأنّ عملية ما طقسيّة تحتّم أن يتصرّف الله بشكل محدّد


هذا العمل الجماعي والفردي مع الله يتطلّب فكراً وعلماً وقلوباً جعلت الفقراء والمهمّشين والمظلومين في وسطها، فسعت إلى أن تخفّف عنهم وطأة صلبانهم: صلبان الظلم والاحتلال والتهميش والعنف المنزلي وعدم المساواة بالكرامة والحقوق وسياسات الإفقار والأمراض (الموجودة بحكم الطبيعة وبحكم الإهمال والنهب) والتلوّث والتعذيب والاعتقال وكمّ الأفواه والعقول.
لا تراب مار شربل (الذي ليس موقعه في مستشفى حكومي)، ولا الكأس المقدّسة هما وسائل طب، ولا الله بساحر ليُفني الجراثيم بكأس نبيذ وخبز وماء. ومن الهراء القول بأن لا وجود للجراثيم في كأس ما من هذا الكوكب وهذا العالم، من دون اختبار علميّ موثوق. وبدوره، ليس الطب والعلوم وسيلةً لتأكيد أو نفي قداسة ما تحتويه كأس ما، أو زيت ما، أو تراب ما، أو لتأكيد أو نفي وجود الله، وليس هو وسيلة للتأمّل في معنى الوجود.
قليل من فضيلة التمييز التي يتغنّى بها التراث الكنسي عن حقّ ضرورة في هذه الظروف، وتنجّينا من مصائب أكبر. قيادة العقول إلى الهلاك، مدمِّرة على أكثر من صعيد، ومنه الصعيد الصحّي. الظرف دقيق صحّياً، والمعتوه وحده لا يأبه له. الإيمان الحق لا يُعفي من القلق، وإنّما يحفّز الإنسان كي يعمل على مواجهة المصائب عوض النكوص إلى موقفٍ غير ناضج مُلقياً بالتهم على آخر إلهيّ، أو ناكراً المخاطر. الإيمان لا يلغي القلق، ولكنّه قد ينجّي من الهلع والقلق المكبّل. الفرق شاسع.
السحر هو محاولة للإمساك بالألوهة وتطويعها، قلقٌ عميق يلبس لبوس ثقة زائفة، تعطّل العقل تحت مسمّى «الإيمان». أمّا الإيمان الحيّ، فقلقٌ إيجابي على الحياة، يعمل ويعلم أنّه ليس وحده ولكن مع الله، وأنّه ليس الله، وأنّ الله يريد لهذه الحياة أن تستمر وتجمُل بالمشاركة، وأن الإنسان ليس سيّد هذا العالم، ولذلك يساهم بالعمل وبتخفيف الأوجاع التي لا بدّ منها، ومنع حدوث أوجاع يمكن منعها. ومهما حدث، تألَّم أم لم يتألَّم، مات أم عاش، يعلم أنّه محبوبٌ من الله وبدوره يحبّهُ، وهذا كلّ الحياة.

* أستاذ جامعي