لم يمتثل جميع اللبنانيين - إلى حينه - إلى الارشادات الوقائيّة الصادرة عن وزارة الصحّة عملاً بتوصيات منظّمة الصحة العالميّة. كثيرون «خرقوا» مقرّرات لجنة متابعة التدابير والإجراءات الوقائية لفيروس كورونا، ومنها «إغلاق مراكز الترفيه، وتفادي الأماكن المكتظّة والتجمّعات». الخرق حصل في أكثر من مكان عام تجمّع فيه عشرات المواطنين، خصوصاً خلال عطلة نهاية الأسبوع، سواء على الكورنيش البحري أو في ميادين التزلّج أو في أحراج النزهات البريّة. كذلك فعل المؤمنون وهم الفئة الأقرب إلى الامتثال إلى قرارات السلطات الدينيّة، برفضهم الامتثال إلى دعوات عدم التجمّع في دور العبادة وعدم تقبيل المقامات، وظهرت اعتراضات في الشارع المسيحي تطوّرت إلى عدم إكمال القداس في إحدى الكنائس احتجاجاً على تنفيذ قرار مجلس المطارنة الموارنة بـ«إعطاء المناولة باليد بشكل مؤقّت للوقاية من فيروس كورونا».عدم الالتزام بالارشادات الطبيّة والوقائيّة يرجعه علم النفس الاجتماعي إلى أكثر من سبب أبرزها التنشئة والمسؤوليّة الاجتماعية وعدم الاكتراث لرأي الآخرين وغياب مبدأ المحاسبة.

(هيثم الموسوي)

أستاذة علم النفس الاجتماعي والبينيّة الثقافيّة الدكتورة سحر حجازي تشرح لـ«الأخبار» أسباب الالتزام من عدمه، وهي: «التنشئة الاجتماعيّة التي تلقّاها الفرد في حال عوّدته على احترام القوانين والضوابط أو إذا كانت تنشئةً متساهلة من دون عقاب؛ الاتجاهات الفكريّة المختلفة للفرد وبنيته النفسيّة التي يميّز من خلالها وجود خطر من عدمه فهو يمكن أن يكون شخصاً متديّناً مسلّماً لحماية الله ويتحدّى الخطر أو شخصاً واقعياً وحذراً بطبيعته فيتّخذ الحيطة والحذر؛ ولأن الإصابات لا تزال محدودة ولا حالات وفاة ولأنّ الفرد لم يرَ أحداً يعاني من ضيق التنفّس الذي يسبّبه المرض فإنّ تصنيف الخطورة لدى كثيرين لايزال منخفضاً». أسباب خرق إرشادات الوقاية تتضمّن أيضاً وفق حجازي «حسّ المسؤوليّة الاجتماعيّة والصحيّة الذي يحدّد درجة تحمّل المسؤوليّة تجاه الآخرين وعدم الاستهتار بصحّتهم، وبغيابه لا يبالي الفرد بالإجراءات وضرورة ملازمة المنزل حتى لو حمل بعض الأعراض (مثل السعال)، وهذا يرجع أيضاً إلى التنشئة الاجتماعيّة التي لا تعاقب على الأخطاء». يُضاف إلى هذه الأسباب «غياب الاكتراث لرأي الآخرين السلبيّ في حال نقل العدوى إليهم، وهذا يأتي من انخفاض تأثير الرأي العام في لبنان الذي لا يُحسب له حساب في كثير من الممارسات... وعليه لا يكترث الفرد سواء نَقَل العدوى إلى أحدهم، فماذا سيفعل معي؟»، كذلك يعتبر انتشار ثقافة «شو وِقفت عليّي؟» وسيطرتها على ذهنيّة الناس أحد الأسباب، إذ إنها وفق حجازي «ثقافة تجعل الفرد يتعامل مع فيروس مثل كورونا من منطلق: إذا التزمتُ المنزل فهل لن ينتشر المرض في لبنان؟ وهذا أيضاً متعلّق بغياب مبدأ المحاسبة تجاه أي تقصير، وينتج منها الاستهتار وعدم البقاء في المنازل»؛ إلى «غياب الوعي الصحّي لدى الأفراد ما يجعلهم يغادرون المنازل ولا يحتاطون في الأماكن العامة».
في المسألة الدينيّة تصبح أسباب عدم التقيّد بالإرشادات أعقَد، في مجتمع «مؤمن» لا يقبل بسهولة أي تغيير في تقاليده وممارساته الإيمانيّة، الأمر الذي ولّد ردود أفعال عكسيّة تجاه طلب عدم لمس المقامات الدينيّة أو تقبيلها أو الالتزام بقبول المناولة باليد في القداديس لدى المسيحيّين.
«إن أي عادة نشأ عليها الإنسان يصبح تركها انسلاخاً عن الذات، والمناولة مثلاً، اعتادها المؤمنون من يد الكاهن» وفق حجازي. وتستطرد «المجتمع في زمن ثورة وتمرّد على السلطات سواء السياسيّة أو الدينيّة لتأثيرها على الوضع الاجتماعي والاقتصادي، مما يجعل التمرّد على قرارات السلطات الدينيّة وارداً إذا كانت لا تتناسب مع قناعات المؤمنين وعاداتهم». هذا تحديداً ما حصل لدى عدد من المسيحيّين باعتراضهم على مسألة المناولة باليد، لكنّ المسألة أبعد من ذلك «إن السلطة الدينيّة، التي تقول إن الله قادر على كلّ شيء، حين تطلب من المؤمنين الوقاية من أمراض يفترض بالله والمقدّسات أن تشفي منها، ولهذا الأمر دلالته في ذهن الناس بأنّ هذه السلطات تُناقِض نفسها. القرارات المُتّخذة ترتدّ على صورة المؤسسات الدينية، وإن الفرد لا يحتمِل أن يقوم من هو في موقع السلطة بضرب سلطته وصورتِه القويّة... إذ لا يمكن للمؤمن تقبُّل اعتراف السلطة الدينيّة بضرورة اتباع إرشادات العِلم وكأن لا سلطة لله على الكورونا، ففي النتيجة لا يتخلّى الناس عن معتقداتهم بسهولة».
لجوء الإنسان إلى العجائب وقدرات الغيب والماورائيّات خلال الأزمات والحروب والأوبئة، مسألة ضاربة في التاريخ، وعليه لا يشذّ المؤمنون في لبنان على اختلاف طوائفهم عن تلك «القاعدة»، بلجوئهم إلى الدعوات والأعاجيب وإفراغ ضريح قدّيس من التراب عبر نقله للتبرّك... والإصرار على إدخال عيّنة من هذا «التراب المقدّس» إلى مستشفى رفيق الحريري الجامعي حيث يتمّ عزل المصابين بفيروس كورونا رغم اعتراض الفريق الطبّي المعالج في المحاولة الأولى.
اللجوء إلى العجائب والماورائيّات خلال الأزمات والحروب والأوبئة مسألة ضاربة في التاريخ


بشكل عام يلجأ الإنسان إلى الماورائيّات «عندما لا يرى حلّاً في الأفق، عندما يتعاطى مع أمر مجهول، أو مصاب يفوق قوّته ووعيه»، وفق أستاذة الأنتروبولوجيا في معهد العلوم الاجتماعيّة في الجامعة اللبنانية الدكتورة مها كيّال. وبشأن فترات الأزمات، تعلّق «الخوف البديهي لدى الناس يسيطر خلال الأزمات، إذ لا حلّ ولا قدرة لهم لوقف ما يحصل... لذا يلجأون إلى قوّة كالدين لحمايتهم وهو وُجد أصلاً كحلّ للموت وللتخفيف من وطأته على البشر». وفي خصوصيّة المجتمع اللبناني تقول: «نحن مجتمع ينتشر فيه الإيمان بكثرة، ولم تحصل قطيعة بعد مع القضايا الإيمانيّة، وخصوصاً انتشار الإيمان الشعبي والطقوس الشعبيّة، وهذه مسألة ضاربة في الجذور اللبنانيّة، حتى اللجوء إلى مقامات ومزارات لغير أديان»، وعليه «لا غرابة في لجوء اللبناني إلى الدين، إذ إنه وبالرغم من معرفة الأشخاص للمعلومات المستقاة من حملات التوعيّة فإنّه يجري الخلط لدى التطبيق في الممارسات اليوميّة».
المراحل التي يمرّ بها الفرد قبل تقبّله أي مصيبةً أو أزمة صحيّة أو اعترافه بخطورة مرض معيّن، تبدأ بالإنكار ثم الغضب والثورة على الواقع (لماذا أنا؟ لماذا لبنان؟) وتنتهي بتقبّل الوضع... وبما أنّه وفق الاختصاصيّين لا إمكانيّة لتقييم المرحلة التي بلغها المجتمع اللبناني مع تسجيل اختلاف من فرد لآخر، فإن تقبّل وجود فيروس كورونا وضرورة التزام الوقاية منه، «مسألة وقت».