للمرة الأولى، يُطرح الملف اللبناني الاجتماعي وكيفية تعامل المصارف اللبنانية مع المودعين، بهذا الوضوح على طاولة دوائر أميركية معنية بالشأن اللبناني، ويتحول عنواناً أول عند جهات أمنية أوروبية وأميركية على السواء، تخوّفاً من تداعياته السلبية وانعكاسه فوضى أمنية.تقول معلومات مطلعين على مناقشات تدور في واشنطن، على مستويات ديبلوماسية وشخصيات مؤثرة في مراكز القرار على مستوى البيت الأبيض ووزارة الخارجية، إن النقاش حول طريقة تعامل واشنطن مع لبنان منذ 17 تشرين الاول تغيّر وفق تبدل المعطيات المحلية. فالآراء منقسمة بين اتجاهين؛ الاول يدعم «إهمال» لبنان كلياً حتى من دون أي أسباب أو مبررات تتعلق بالواقع السياسي أو الاقتصادي، وهذا موقف أميركي متقدم لا يعطي أي إحاطة بالواقع اللبناني المتدهور، علماً بأن هناك أصواتاً إقليمية تدعو الى تغليب هذا الخيار باعتبار أن الولايات المتحدة وحلفاءها الخليجيين لم يوفروا أي جهد لمساعدة لبنان، مالياً واقتصادياً، إلا أنه بات - بالنسبة اليهم - غير مجد، بعدما أثبتت الاشهر الاخيرة عقم أي محاولة لإنقاذه من ملفات الفساد والاهتراء والانقسام السياسي.
أما الاتجاه الثاني، فلا يتحدث عن ضرورة دعم لبنان ومدّه بالمساعدات، بل البقاء في حال انتظار لمعرفة ما ستؤول اليه الاوضاع، وما يمكن أن تقوم به السلطات اللبنانية، في وقت يسعى فيه بعض الجهات الى تظهير هذا الخيار بأنه سيّئ، «لأنه يعطي مجالاً أوسع لحزب الله وإيران» في السيطرة على لبنان أكثر، ولأن التخلي عن لبنان يعني تركه للفوضى، وهذا لا يفيد واشنطن ولا الدول الحليفة لها في المنطقة.
ومع أنه لا خيار أميركياً غالباً في الوقت الراهن، إلا أن مسار الاحداث اللبنانية، وتدهور الوضع الاجتماعي والمصرفي، جعلا الاميركيين، للمرة الاولى وفق المعلومات، يقفزون فوق الخيارات السياسية ليتقدم النقاش الجدي في واشنطن حول التدهور السريع الذي بات يعيشه اللبنانيون في أشهر قليلة، وعلاقتهم بالمصارف، بعدما اشتدت حدة الاجراءات التي تتخذها الأخيرة في حق المودعين، ما ينعكس سلباً على الضروريات الاساسية الحياتية والمعيشية. في الاسابيع الاولى التي تلت 17 تشرين الاول، كان انشغال الرأي العام الدولي والاقليمي بمتابعة التظاهرات اللبنانية وكيف يمكن أن تلعب دوراً مؤثراً في تغيير السلطة في لبنان، لا سيما بعد استقالة الرئيس سعد الحريري وموقف رئيس الجمهورية ميشال عون وحزب الله في مقاربة التحرك الشعبي. لم تكن الاجراءات المصرفية أخذت بعد هذا البعد الدولي، لا سيما أن الايام الاولى شهدت إقفال المصارف ومحاولات امتصاص نقمة الناس بتطمينات وهمية. مع توسع الاحتجاجات تجاه المصارف، ورغم كل محاولات التعمية الرسمية والاعلامية المتلفزة خصوصاً، لحقيقة الاجراءات المصرفية، وحماية الجيش والقوى الامنية لها، انكشفت حقيقة ما يجري داخل أروقة المصارف. لم تستطع إجراءات السلطة السياسية والأمنية منع توسع رقعة المعلومات التي يحري تداولها في الاعلام الغربي، وهذا أمر لافت في الايام الاخيرة، يتعدى مواكبة التظاهرات وتغطية الازمة السياسية. كذلك باتت ملفاتها حاضرة بتفاصيلها عند الديبلوماسيين المعتمدين في لبنان، الذين باتوا ينقلون صورة واقعية عمّا يجري في المصارف من سياسات مالية وأساليب معتمدة للتضييق على خناق اللبنانيين في المجالات الصحية والغذائية والمتطلبات اليومية. وقد وجّه بعض هؤلاء نصائح، خلال لقاءات على مستوى رفيع في بيروت، بضرورة التنبه إلى ما قد تنتجه هذه الازمة المصرفية على الارض. والبارز أيضاً أنه مع الضغط داخل الإدارة الاميركية حول الوضع المصرفي في ما يتعلق حصراً بأدائها تجاه المودعين، وإزاء الحملات المصرفية «الرسمية» لتلميع صورتها دولياً، بدأت مجموعات اغترابية لبنانية الضغط في شكل فاعل لتظهير ما تقوم به هذه المصارف وتفصيل إجراءاتها وانعكاساتها. وتقدم هذه المجموعات صورة شاملة عن حماية المواقع الرسمية للمصارف وعدم استنكار القوى السياسية كافة لإجراءاتها والتنديد بها علانية. وتنقل شخصيات اغترابية فاعلة وقائع التدهور الاجتماعي الذي شهده لبنان خلال أسابيع قليلة، وارتفاع نسب الفقر والعاطلين من العمل وانخفاض المستوى المعيشي الغذائي في شكل مفصل. ونتيجة ذلك جرت نقاشات في واشنطن حول السبل الآيلة الى تقديم مساعدات مباشرة وحصرها بقنوات اجتماعية بحتة، وهو ما تؤيده عواصم أوروبية، باتت أكثر اطلاعاً على الوضع المصرفي.
دبلوماسيون نبّهوا مسؤولين لبنانيين الى ما قد تخلّفه الأزمة المصرفية على الأرض


خطورة هذه الإحاطة، لا تنحصر في الشق الاجتماعي فحسب، لأن دوائر أمنية أوروبية على تماس مع الوضع اللبناني الداخلي، حذرت من مخاطره الامنية، وقد توافقت مع نظيرتها الاميركية في إبداء الخشية مما يقبل عليه لبنان نتيجة التردي الحاصل. وقد وصلت تحذيرات الى معنيين بأن السلوك الحالي الذي تعتمده المصارف لن يستغرق وقتاً لينفجر سلباً، وأن تصرف السلطة حيال المصارف والتظاهرات لا بد أن ينعكس فوضى وتوتراً أمنياً على المدى القريب والمتوسط، ما يتطلب إدارة مختلفة للأزمة. والتلطّي خلف الاجراءات الامنية التي تحمي المصارف قد يعطي مفاعيل عكسية في بلد ينتشر فيه السلاح الفردي بكثرة، ولا سيما إذا أخذت اليونان كمثل لمعالجة الازمة المالية، لأن إجراءات المصارف والسلطات فيها بعد الازمة المالية، عدا عن أنها حلت لأسباب أوروبية بحتة، واختلاف ظروفها المالية ومطالبة المودعين بحسابات بالعملة الاوروبية، وعدم وجود فضائح التحويلات الى الخارج، حصلت في بلد لا يحمل مواطنوه أسلحة فردية، إضافة الى أن وجود سلطة سياسية وأمنية مركزية أسهم في كبح ردّ الفعل على الإجراءات وعلى التدهور المالي. وهذا ليس حال لبنان، حيث السلطات السياسية تحمي المصارف، والسلاح الفردي متفلّت، وفي وقت يرتفع فيه عدد السرقات والاعتداءات المسلحة، وتزيد المصارف من حدة إجراءاتها أسبوعياً، فتراكم بدورها احتقان المودعين.