فورَ اندلاع «الهبّة التشرينية»، باشَر رئيس الحكومة السابِق سعد الحريري استدارة نحوَ الشارِع. بلَغ في «الثورة» مبلغاً كاد معه البعض يُصدّق بأن «الشيخ سعد» ليس وريث «الحريرية». في تهرّبه من مواجهة الانهيار المالي، أرادَ الإيحاء كما لو أنه من خارِج الحُكم. ركِب موجة التغيير ليأمَن على نفسِه من الاتهامات. لكن التدقيق في حاله يكشف أن خروجه من رئاسة الحكومة لا يعني خروجه من الحكم. فهو لا يزال كما كان، في صُلب منظومة تحتلّ «دولته العميقة» مساحة يسيرة فيها. عبّر عن هذا الواقع أحسن تعبير بردّه على سؤال عن إمكان إقالة اللواء عماد عثمان من المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي إذ قال: «خلّي حدا يحاول، شو حبّة وحبتين أنا». جملة ارتآها الحريري خير تعبير للإشارة إلى الحصانات المذهبية والطائفية والسياسية التي يمنحها لوكلائه، فيحمون نفوذه في الدولة.زرعت الحقبة الحريرية الكثير من أمثال عثمان في الوزارات والإدارات، على هيئة موظفين، وحوّلتهم الى مفاتيح مُمسِكة بالمفاصل الأساسية لبنية المؤسسات، بشكلٍ يجعل تأثير الحريري طاغياً مهما تراجع حضوره المباشِر. أياً يكُن لقبه – رئيساً سابقاً أو حالياً - يبقى مُحكماً قبضته على «مراكز القرار» من خلالهم. فالحالة الحريرية في الدولة ليسَت مجرّد نموذج اقتصادي اعتُمِد بعد الطائف، بل هي بالدرجة الاولى مجموعة من الأفراد الموزعين في مناصِب عليا في إدارات الدولة، يعملون وفق منظومة متناسقة مع السياسة الحريرية. هذا الواقِع يبدو جلياً لكل من عمِل أو يعمَل في الإدارات، حيث يُمكنه أن يتحدّث بسهولة عن هذه الحالة المتجذرة، التي تؤدي في كثير من الأحيان إلى «مُحاصرة» أي شخص لا ينتمي إليها.
إلى جانِب كتلة وازنة في مجلِس النواب، يحضر الحريري في كلّ مكان. موجود في جمعية المصارِف، كصاحب بنك. ثابِت في حاكمية مصرِف لبنان من خلال رياض سلامة. وللحريري أيضاً وديعته في المصرف المركزي هي نفسها وديعة الأميركيين: النائب السابق لحاكِم المصرف محمد بعاصيري (إلى جانِب كونه أمين سرّ هيئة التحقيق الخاصة لمكافحة تبييض الأموال)، الذي، رغم أنه أصبح «سابقاً» بعد انتهاء ولايته، عيّنه سلامة مُشرفاً على تصفية بنك «الجمّال».
يتعامل الحريري مع بعض المؤسسات في الدولة كما لو أنها «ورتة أبيه». السراي الحكومي خير مثال على ذلك. في قاموس «المستقبليين» هو ملك لآل الحريري. أي رئيس آخر من خارِج الحريرية يدخُل إليه غير مرضى عنه، ويخُرج منه غير راضٍ لكثرة ما يشعر بأنه «ليس في ملعبه».
موظفو الحريري في السراي دائماً يحكمون السيطرة على كل كبيرة وصغيرة

يصِف أحد المستشارين الذين عملوا في الرئاسة الثالثة السراي بأنه «الدولة العميقة للحريري». جيش من العاملين بدأوا مع الرئيس الراحل رفيق الحريري، بعضهم لا يزال حتى الآن، وآخرون انضموا مع مجيء الحريري الابن.. هؤلاء يحكمون السيطرة على كل كبيرة وصغيرة في السراي. وهم عيون الحريري في غيابه (عهود نجيب ميقاتي وفؤاد السنيورة وتمام سلام) الى حدّ أنه «يُمكن أن يعلَم بجدول أعمال الجلسات قبلَ الوزراء، فضلاً عن محاضر اجتماعات الرئيس مع الضيوف المحليين والأجانب». يمكن اختصار الواقع بمشهد «ثقة الحريري»، الأمين العام لمجلس الوزراء محمود مكية، حاضراً في كل اجتماعات الرئيس حسان دياب. وإلى جانب العاملين في السراي، يحكم الحريريون المؤسسات التابعة لرئاسة مجلس الوزراء، من الهيئة العليا للإغاثة ومجلس الإنماء والإعمار، الى عشرات المؤسسات الشبيهة.
وكما في السراي، كذلك في وزارات المال والاتصالات والداخلية. في هذه الوزارات موظفون لا يتأثرون بتعاقب أصحاب المعالي، لأي فريق انتموا. ففي المالية مثلاً، يقول العارفون إن أكثرهم «زُرع» على زمن السنيورة، بمساعدة من مستشاره نبيل يمّوت، وخاصة في «المعلوماتية»، حيث يُمكن الاطلاع على كل الداتا في «المالية»... وربما «العبث» بها. هذا الموّال يسري أيضاً في وزارة الداخلية. أياً يكُن الوزير الذي دخلَ «الصنائع» والفريق الذي أتى به، يبقى فريق الحريري «ثالثهما»، وكل ما يحصل في الوزارة يحصل تحتَ إشرافهم، بينما تعتبر وزارة الاتصالات أهم معاقل الحريري في الإدارة العامة، بعدَ أن تحوّلت الى منجم للمال. صحيح أنه بعدَ سنوات من السطوة الحريرية على هذه الوزارة تغيّرت خلفية الوزير، مع مجيء حكومة «تكنوقراط»، إلا أن التعيينات التي حصلت قبل الانتخابات النيابية، كانَ للحريري حصّة وازنة فيها، إن كانَ على صعيد الوزارة أو هيئة أوجيرو.
ويمثّل القضاء والأمن ركيزتين أساسيتين في دولة الحريري العميقة. بعد العام 2005، قرّر الحريري تحويل قوى الأمن الداخلي من مؤسسة شديدة التقليدية إلى مؤسسة بعديد كبير وجهاز أمني محترف، مع حصّة كبيرة من المساعدات الأميركية والأوروبية والعربية. ونجح في السنوات التالية في أن يحجز لنفسه مكاناً بينَ الأجهزة، وتقدّم عليها في أكثر من محطّة. يجمع هذا الجهاز بين الأمن الجنائي، والأمن السياسي والعلاقات الدولية، ولا يزال مطوّباً للحريرية، بصرف النظر عن وزير الداخلية الذي يُحاذر الدخول في معركة مع المديرية. في الجيش، صحيح أن نفوذ الحريري أقل ممّا هو عليه في باقي المؤسسات، لكنه حاضر في المجلس العسكري، أي سلطة القرار العليا في المؤسسة العسكرية، من خلال منصِب الأمين العام لمجلس الدفاع الأعلى.
وفي القضاء، استفاد الحريري من تجربة والده، مدركاً أهمية موقع المدعي العام التمييزي، كرأس النيابات العامة، وكعضو حكمي في مجلس القضاء الأعلى. وفضلاً عن نفوذه في العدلية وعلى صعيد التشكيلات القضائية، يمكن النائب العام لدى محكمة التمييز فتح أي ملف أو إقفاله. بناءً على ذلك، حرص الحربري منذ عام 2005 على أن لا يشغل منصب المدعي العام التمييزي قاضٍ لا تربطه بالحريري علاقة جيدة. ولم يكتفِ الحريري بذلك في «العدلية» ولا بـ«احتكار» تعيين القضاة المنتمين إلى الطائفة «السنية»، بل غرس على مدى السنوات الماضية قضاة من طوائف أخرى يعملون لمصلحة سياسته، وصل بعضهم إلى عضوية مجلس القضاء الأعلى.