ليس السجال الذي اندلع أمس بشأن إذا ما كان سد المسيلحة قادراً على تخزين المياه أو لا. وما كنا نحتاج الى توضيحات وزارة الطاقة بأن السد لا يزال في مراحله التجريبية لنقرّ للوزارة بأنها على صواب. المشكلة الأساسية، أو الأسئلة الأساسية التي لم تستطع الوزارة يوماً أن تجيب عنها، أو أن تقنع أحداً بها، هي: بناءً على أي استراتيجية اتُخذ الخيار المكلف بإنشاء أكثر من 40 سداً سطحياً، إن لناحية تحديد الحاجات والاستخدامات، أو لناحية تحديد ما هو متوافر من مياه سطحية أو جوفية؟ وما الذي يبرر هذا الاعتداء على الطبيعة اللبنانية ووقف جريان المياه وتخريب النظم الأيكولوجية وتعريض المياه للتبخر والتلوّث، وما يتركه ذلك من آثار صحية وبيئية كارثية، بحسب تجربة سد القرعون القاتلة والمكلفة جداً؟وكيف تم تحديد الحاجات، فيما ليس لدى الوزارة معلومات كافية عن المتساقطات (لا سيما من الثلوج) ولا دراسات للأحواض ولا قياسات للينابيع المتفجرة مع أجهزة القياس اللازمة، ولا تم تطبيق القوانين التي تحمي مصادر المياه والأنهر وحرمها. أين الاستراتيجية التي تحدد المعطيات وتلك التي تحدد الاستخدامات في القطاعات كافة، لا سيما في الزراعة والسياحة والصناعة والاستهلاك المنزلي… وكيفية الترشيد والتوفير، وحجم الهدر في الشبكات والخصخصة والبيع؟ فضلاً عن السؤال المركزي: لماذا المياه متوافرة دائماً في «السيترنات» والعبوات لا في الحنفيات؟ ومن أين يحصل الباعة على المياه؟ وأي مافيات تتحكم في هذا القطاع؟
إذا كان لدينا المال لنصرفه على تطوير هذا القطاع، فلماذا منحنا الأولوية لإنشاء سدود لا لوقف الهدر في الشبكات والمقدر بأكثر من 30%؟ وكيف نصرف على تجميع مياه الأنهر خلف سدود قبل أن نعالج مياه الصرف التي تصبّ في هذه الأنهر ومن ثم خلف السدود؟! أي استراتيجية حدّدت الأولويات؟ وهل تمّ درس خيار معالجة مياه الصرف وإعادة استخدامها في الصناعة والسياحة وبعض الزراعات وحجم توفيرها للمياه العذبة؟ وهل تم ربط تسعير تأمين مياه الشرب مع تسعير معالجة مياه الصرف، علماً بأن زيادة حجم المياه بعد إنشاء السدود، كما يجري الترويج، تعني أيضاً زيادة في حجم مياه الصرف وكلفة معالجتها؟
ثم أين الدراسات التي تحدد حجم السحب من المياه الجوفية في المناطق كافة، مع العلم بأن الآبار غير المرخصة تفوق كثيراً تلك المرخصة، فيما يمكن لعملية المسح ثم التشريع والضبط (كوضع العدادات على المياه الجوفية المسحوبة أو إقفال غير المرخّص) أن توفر الكثير من المياه الجوفية التي تعتبر الخزين الاستراتيجي لسنوات الشحائح؟
لو تبنّت الوزارات المعنية مثل هذه الاستراتيجية التي تمنح الأولوية لترشيد الاستهلاك، وخصوصاً في القطاع الزراعي عبر استخدام أساليب الري الحديثة والعودة الى تشجيع الزراعات البعلية واستخدام العدّادات بدل العيارات، ولا سيما في المدن والشقق السكنية… وبقيت هناك حاجات ملحّة في مناطق محددة، يمكن عندئذ البدء بدراسة خيارات إضافية، تبدأ بتعزيز التخزين الجوفي (وليس السطحي) وإنشاء بحيرات صغيرة للري، وغيرها من التقنيات التي تماشي الطبيعة وتساعدها ولا تتحداها، مثل خيار السدود السطحية.
وإذ يجزم الخبراء الجيولوجيون بأن معظم الصخور في لبنان والوديان التي تجري فيها الأنهر ذات طبيعة كارستية وكلسية وفيها تشققات طبيعية (بمثابة نعمة) تسهم في تسرب مياه المتساقطات المتجددة لتغذية المياه الجوفية دائماً… فإن من غير المستحسن اللجوء الى سد هذه الانهر أو الوديان، لأن المياه لن تتجمع داخلها، خصوصاً عندما تصل الى سعتها القصوى وثقلها الأقسى، فهي حتما ستزيد الشقوق في الارض والاسمنت، وتسهم في زيادة التسرب وضياع المياه المجمّعة خلفها، إضافة الى تبخر الكثير منها في أيام الحاجة اليها صيفاً، فضلاً عن تسبّب المياه المجمّعة في الوديان الخضراء في إنتاج غاز الميثان الذي يعتبر أخطر بـ32 مرة من ثاني أوكسيد الكربون، وله آثار كبيرة على تغيّر المناخ، ويتسبّب في أمراض كثيرة، إنسانية ونباتية وحيوانية.
كذلك فإن تجميع المياه الجارية خلف سدود في بلد كلبنان لا يضبط ولا يعالج مياه الصرف والملوثات الزراعية والصناعية السائلة، ولا يزال يعتمد الوديان كمكبّات مكشوفة للنفايات الصلبة وعصارتها، يحتاج حتماً، ما بعد السد، الى محطات لتكرير مياهه قبل استخدامها للشرب أو حتى للزراعة بأكلاف اضافية، إضافة الى أكلاف الاستعانة بمحطات ضخ المياه، كما هي الحال في سد المسيلحة القريب من سطح البحر، والى كلفة في الطاقة والصيانة، تصبح مع الوقت أكبر من كلفة إنشاء السد، كما يحصل الآن مع سد القرعون الذي وصل الى مرحلة يمكن اعتبار كل الاموال الذي ستصرف لمعالجة مياهه الملوثة هدراً اضافياً.
أيضاً تنبغي الاشارة الى خدعة الشركات الهندسية أو الاستشاريين الذين يروّجون لسياسة إنشاء السدود، إذ يخفي هؤلاء في الدراسات الاولية الحاجة الى تغليف السدود، مع علمهم بطبيعة الأرض الجيولوجية، لكي لا يظهر من البداية عدم الجدوى الاقتصادية. هذا ما حصل مع سدود شبروح والقيسماني وبقعاتا… وهذا ما سيحصل مع سدّي جنة والبواليع في تنورين! ويعتقد البعض أن هذه السياسة مقصودة لتشغيل أكبر عدد ممكن من الشركات والاستشاريين وشركات الباطون، مع ما يتبعها من حاجات الى مقالع وكسارات لخدمة هذه المنشآت الضخمة والبشعة بكل المقاييس.
لا يختلف سدّ المسيلحة عن غيره كثيراً لناحية عدم جدواه وآثاره المدمرة التي يضاف اليها تدمير الإرث الطبيعي والأثري للمناطق (كما هي الحال في بسري)، ولم تكن هناك من حاجة الى المزيد من المشاريع والتجارب والتذكير بأن لبنان معرض للزلازل والهزات الارضية والاعتداءات من عدوّ متربّص بنا، ما يفترض معه ألا نغامر بمشاريع كهذه.
لن ينفع بيان وزارة الطاقة والمياه في الحديث عن إفراغ السد في أيام (مليونا متر مكعب) للتجربة، من دون إعلان مسبق حول الاسباب والكيفية! ولا حاجة الى مثل هذه التجارب القاتلة، بعدما تم تحويل المياه من مادة أساسية للحياة الى مادة قاتلة من كثرة الأطماع والمشاريع المبالغ في الحاجة اليها وفي كلفتها. فالموضوع، كما بيّنا، أبعد من ذلك من الناحية الاستراتيجية. والسؤال الاضافي الذي يطرح: لماذا تم تغييب دور وزارة البيئة التي كان عليها منذ عام 2010 أن تجري تقييماً بيئياً استراتيجياً لكل مشاريع الدولة، بما فيها السدود، للإجابة عن الأسئلة السالفة الذكر، ولدراسات إضافية تتعلق بالتشوهات أو بطرق التخلص من الردميات أو لناحية الآثار البيئية الناجمة عن تغيير معالم المناطق البيئية وتحويلها من جافة صيفاً الى رطبة، وتغيير الأنظمة الأيكولوجية المحلية… في وقت نستطيع فيه أن نجزم بأن أحداً لن يجرؤ على الادعاء أنه يستطيع أن يدرس آثار مشاريع خطرة كهذه (على المديين المتوسط والبعيد)، كان يمكن الاستغناء عنها بوقف السرقة والهدر والترشيد في الاستخدامات كافة… وكان يمكن تجنّبها بتطبيق «مبدأ الاحتراس» عند الشك في زيادة المخاطر، وعندما تغلب احتمالات الاضرار على المنافع.