لنبدأ بالأهم وهو الأساس الدستوري والعدلي والأخلاقي العام. فقد جاء في الفقرة «واو» من مقدمة الدستور ان النظام الاقتصادي في لبنان حرّ «يكفل الملكية الخاصة». وبالتالي يفترض ان يكون حق تصرّف أي مواطن بأملاكه الخاصة، بما في ذلك الاموال المودعة في المصارف، حقاً دستورياً. أما الأساس العدلي والأخلاقي فيوجب على قوى الامن الداخلي حماية هذا الحق الدستوري تحت طائلة المحاسبة من خلال مساءلة وزير الداخلية امام مجلس النواب، وتشكيل هيئة تحقيق برلمانية، لا سيما أن قانون تنظيم قوى الامن (القانون 17/1990) يحدد مهامها بـ«حفظ النظام وتوطيد الامن». وحفظ النظام يقتضي ان تسلّم المصارف المودعين أملاكهم الخاصة استجابة لطلبهم. أما ربط المشرّع عبارة «توطيد الامن» بعبارة «حفظ النظام»، فليس عرضياً أو من باب الصدفة، بل لأن العبارتين مرتبطتان ارتباطاً وثيقاً. إذ ان أي خلل في حفظ النظام المحدّد في الدستور يؤدي حتماً الى تهديد الأمن. وعلى هذا الأساس، فإن عجز قوى الامن الداخلي عن تنفيذ مهامها الأساسية (الواردة في الفقرة الاولى من الجزء الاول من المادة الاولى من قانون تنظيمها) يهدد أمن البلد. وينطلق هذا التفسير من العقد الاجتماعي الأساسي الذي تقوم عليه الدولة، حيث ان المواطنين والمواطنات سلّموا الدولة حقّ وصلاحية تحقيق العدل وتأمين الحقوق بحسب الدستور، وبالتالي فان تمنعها عن حماية حق المواطنين والمواطنات بالحصول على املاكهم الخاصة يسقط جزءاً أساسياً من شرعيتها، ويفترض ان يضعها امام المساءلة والمحاسبة بحسب مقتضيات الدستور والقانون.أداء قوى الامن الداخلي في الحمرا، ليل أول من أمس، يستدعي مرة جديدة المطالبة بإصلاح هذه المؤسسة وتطوير أداء قيادتها وضباطها ورتبائها وعناصرها. فلا بد، أولاً، من الإشارة الى ان مكتب المفتش العام لقوى الامن الداخلي يقع على بعد أمتار قليلة من مكان الحدث. لكن وزيرة الداخلية لم تكلفه بفتح أي تحقيق مسلكي ليقوم بواجباته بحسب صلاحياته الواردة في نص القانون. ولم تستدع الوزيرة مجلس الامن المركزي للانعقاد بصورة طارئة للتنسيق بين محافظ بيروت والنائب العام لدى محكمة التمييز ومدراء قوى الامن والامن العام وأمن الدولة والدفاع المدني وقائد الجيش من أجل التعامل القانوني مع حالة الغضب الشعبي العارم، الناتج عن تخلف قوى الامن عن القيام بواجباتها الأساسية لا سيما حفظ النظام الذي يكفل الحق بالملكية الخاصة كما ذكرنا آنفاً.
وبما ان وزيرة الداخلية لم تطلب من المفتش العام فتح تحقيق مسلكي بما حصل، نورد الملاحظات الآتية:
اولاً، لم تقم قيادة قوى الامن وضباطها أو أي مندوب او موظف من وزارة الداخلية بأي محاولة جدية للتفاوض مع المتظاهرين والمتظاهرات قبل وقوع الصدام، بينما تقتضي المعايير المهنية ان تسعى قوى الامن الى ذلك قبل استخدام العنف. وعندما أراد المتظاهرون والمتظاهرات نصب خيمة احتجاج في الباحة الخارجية لمصرف لبنان واجههم عناصر قوى الامن بشدة غير مبررة مهنياً.
ثانياً، لدى هجوم قوى مكافحة الشغب على المتظاهرين والمتظاهرات بعدما رشقها بعضهم بالحجارة وعبوات المياه، قام عدد كبير من رتباء وعناصر قوى الامن بضرب الناس في كل الاتجاهات وعلى كامل جسدهم، وبشكل وحشي لا يدل الى أي احتراف، أو الى الحد الأدنى من المسؤولية الأخلاقية. وهنا لا بد من التذكير بـ«مدونة قواعد سلوك عناصر قوى الامن الداخلي» التي صدرت عام 2011 عن المديرية العامة لقوى الامن الداخلي، وجاء فيها «أولاً: الواجب المهني: عنصر قوى الامن يحترم الكرامة الانسانية ويصون حقوق الانسان». لكن يبدو ان ضرب المتظاهرين والمتظاهرات على وجوههم وسحلهم في الشارع وشتمهم ورميهم بالحجارة وضرب النساء في أماكن حساسة وغيرها من الممارسات القمعية الحاطّة بالكرامة الانسانية لا يستدعي فتح تحقيق مسلكي وقضائي، بحسب السيدة وزيرة الداخلية ولا بحسب اللواء المدير العام.
إطلاق بعض عناصر قوى الامن في الحمرا النار من أسلحة حربية يهدد السلم الأهلي


ثالثاً، لا شك في أن من واجبات قوى الامن حماية الاملاك العامة والخاصة، لكن ليس من واجباتها ابداً حماية جهة ترتكب جريمة مشهودة متمادية بحق الناس وحقها الحصول على أملاكها الخاصة. وعندما تعجز قوى الامن (ولا تحاول اصلاً) عن استرداد الناس لملكها بعد مطالبتها بذلك لأكثر من تسعين يوماً في الشارع، وعبر الشاشات والنداءات، وحتى التوسّل، فان من حق الناس ان تغضب وان تعبّر عن غضبها ما يؤدي الى حصول تكسير في ممتلكات الجهات المعتدية (أي المصارف).
رابعاً، ان إطلاق بعض عناصر قوى الامن الداخلي في الحمرا النار من أسلحة حربية يهدد السلم الأهلي وسلامة البلد وأمنه. فلا يجوز مواجهة مواطن مقهور طلب من قوى الامن تحصيل حقه ولم تفعل بعد 90 يوماً من المطالبة الى تكسير زجاج من يحتجز أمواله، بالرصاص القاتل (ولو أطلق بالهواء).
خامساً: كان لافتاً امس استدعاء القوة الضاربة التابعة لفرع المعلومات في قوى الامن الداخلي لحماية المصرف المركزي من غضب المتظاهرين والمتظاهرات. وكم هو مضرّ بضباطها ورتبائها وعناصرها الاكفاء، المجهزين لمواجهات الاخطار الكبيرة التي تهدد لبنان، ان يوضعوا بمواجهة شعبهم المطالب بحقوقه بالحصول على املاكه الخاصة؟ كم هو مؤلم ان يشعر ضابط من ذوي الاحتراف في العمل الامني وعمليات الكوماندوس الحربية والمداهمات الخطيرة ان يجد نفسه في وضعية مواجهة مع طلاب وطالبات جامعيين عزّل يمارسون حقهم الدستوري ويعبّرون عن غضبهم ورفضهم لظلم المصارف؟
أخيراً، لا بد من التمني، لا بل مطالبة قيادة قوى الامن وضباطها ورتبائها وعناصرها، ومن بينهم العديد من الشرفاء ومن ذوي الاختصاص والكفاءة، من التنبه لحفظ حقوق الناس وكراماتهم وعدم الاخذ بأي اعتبارات سياسية أو فئوية أو عصبية. قوى الامن الداخلي مؤسسة لحماية جميع المواطنين والمواطنات، في وجود هذه السلطة السياسية الفاسدة أو أي سلطة أخرى. و«الدنيا دولاب»،وقد تتغير الوزارة والإدارة والقيادة. ولكن، يبقى القانون وواجب المساءلة والمحاسبة بحسب الأصول الدستورية، وبحسب معايير الاخلاق العامة.