لا علاقة لسياسات مصرف لبنان بما وصل إليه البلد من انهيار. كل من يستمع إلى رياض سلامة مكرراً تحميل الأزمات السياسية مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع يظن أنه بريء من دم الكارثة المالية. حاكم مصرف لبنان لطالما كان الرجل الأقوى في كل العهود، يفصّل ويقيس ما يطيب له من السياسات النقدية، التي لا تؤدي إلا إلى مراكمة ثروات أصحاب المصارف وصحبهم، لكنه مع ذلك يضع اللوم على السياسيين. لا شك أن هؤلاء هم أساس المشكلة، لكن لا شك أيضاً أنه واحد منهم، والثابت الوحيد بينهم، بوصفه ممثلاً للنظام المالي العالمي.دخل حاكم مصرف لبنان إلى لجنة المال والموازنة، برفقة رئيس جمعية المصارف سليم صفير، محصّناً بأرقام يخلص فيها إلى أن البلد ليس مفلساً وأن الإنقاذ ممكن، لكن المطلوب أولاً تأليف الحكومة. بعد ذلك ليس المطلوب سوى إخضاع الشعب اللبناني لجلسات مكثفة من العلاج النفسي ينتج منها عودة الثقة بالطبقة الحاكمة، سياسياً ومالياً، وبالمصارف نفسها التي أذلّت الناس وأهانتهم.
قال سلامة إن القيمة الإجمالية للودائع حالياً هي 127 مليار دولار، موزّعة كالآتي: 22 ملياراً أموال خاصة للمصارف مودعة في مصرف لبنان وفي المصارف المراسلة، 40 مليار دولار من العملة الأجنبية هي موجودات مصرف لبنان، و50 مليار دولار ديون للقطاع الخاص، و15 ملياراً سندات يوروبوندز.
وعليه، أعاد الإشارة إلى أن لا مشكلة بالسيولة، بل هو القلق الذي يرافق الأزمات السياسية المتلاحقة، معدداً ثلاث أزمات رئيسية أوصلت الوضع إلى ما هو عليه حالياً:
استقالة الرئيس سعد الحريري من السعودية، في عام 2017، حيث جرت عملية زعزعة كبيرة للودائع، إن كان عبر التحويلات الخارجية أو عبر سحب الودائع، لذلك اضطر المصرف المركزي إلى رفع الفوائد ليحافظ على الودائع.
11 شهراً من الفراغ الحكومي في عام 2018 ساهمت في تأخير عملية الإصلاح المالية والاقتصادي التي كانت مطلوبة.
حادثة قبرشمون، في عام 2019، التي ساهمت في شلّ مجلس الوزراء لشهرين.
أما بشأن الأزمة الراهنة، فلم يتردد سلامة في تحميل المصارف مسؤوليتها المباشرة، عبر إغلاق أبوابها بعد 17 تشرين الأول لمدة أسبوعين. فقد أدى ذلك إلى فقدان الثقة بالقطاع المصرفي، ووصول السحوبات إلى 6 مليارات دولار، علماً بأن الأزمة طاولت أيضاً المالية العامة، حيث انخفضت الإيرادات بقيمة 4 مليارات دولار، على ما أعلن وزير المال علي حسن خليل.
كل ما يجري حالياً لم يزعزع ثقة الحاكم بتثبيت سعر الصرف. كرّر الأمر أمس. وكذلك كرّرته «مصادر مصرف لبنان»، بعدما اضطرت إلى توضيح رد سلامة على سؤال عن «أي سعر سيسجّله الدولار» وإشارته إلى أنه «ما حدا بيعرف». إذ أوضحت المصادر أن الحاكم كان يتحدّث عن السعر لدى الصرافين وليس عن السعر الرسمي. لكن التوضيح بدلاً من أن يكحّلها عماها، إذ لم يشكل سوى تأكيد إضافي على استقالة سلامة من مسؤولياته، ومنها ضبط «دولار الصرّافين».
في ظل هذا الوضع، بدا إقرار الموازنة أمس بمثابة الإنجاز الهزيل. حتى التخفيض الذي قارب الألف مليار ليرة لم يمّر سوى بوصفه البحصة التي تسند الخابية. الأولوية في مكان آخر. الأولوية لمعرفة مصير أموال المودعين التي تحتجزها المصارف خلافاً للقانون.
مع ذلك، فقد أخذ إنجاز الموازنة الحيز الأكبر من اجتماع لجنة المال أمس. قبل الأزمة، كان الرهان من معدّي الموازنة على مساهمة مصرف لبنان في خفض العجز. وقد تبين أمس أن المصرف لا يزال على التزامه. إذ أشار رئيس اللجنة ابراهيم كنعان إلى أن «ما سمعناه من حاكم مصرف لبنان، وهو كلام مدوّن في محضر الجلسة، أن المصرف قادر على إنجاز هذه العملية». كذلك، «جرى الحديث عن أرباح المصارف، والآراء في اللجنة تطرقت الى ضرورة أخذ أرباح المصارف عن السنوات الماضية في الاعتبار في التزامها بتخفيض عجز الموازنة».
بعيداً عن النفقات والعائدات التي يفترض أن لا تكون بمستوى المتوقع في عام 2020 أسوة بما حصل في العام الحالي، إلا أن المواد القانونية في المشروع سجّلت خطوات يمكن أن تشكل قاعدة انطلاق في سياق طويل من الإجراءات المطلوبة للخروج من الأزمة، أولها رفع قيمة الودائع المضمونة من قبل هيئة ضمان الودائع من 5 ملايين ليرة إلى 75 مليون ليرة. وتلك خطوة تساهم عملياً في حماية صغار المودعين، الذين يشكلون نحو 88 في المئة من المودعين.
كذلك لجأت اللجنة إلى تضمين الموازنة بنداً يقر تعليق المهل 6 أشهر للقروض السكنية والصناعية والزراعية المتعثّرة، بما يعني أن المصارف ستمتنع، خلال هذه الفترة، عن فرض غرامات تأخير أو مصادرة المنازل على المتأخرين عن الدفع. كما يشمل الخفض الضرائب المستحقة عن النصف الأول من عام 2020.
لجنة المال تخفض العجز ألف مليار ليرة


أهم الإنجازات، إن تحقق، سيكون خفض الفوائد المصرفية على الحسابات المدينة بدءاً من 5/1/2020، أسوة بالفوائد على الودائع. وتلك خطوة ستؤدي بشكل مباشر إلى تقليص خدمة الدين الداخلي، بالليرة والدولار، والذي يشكل نحو 80 في المئة من مجمل الدين. كما ستساهم في خفض الفوائد على القروض الخاصة بالأُسر.
خلفية كل النقاش كانت مرتبطة بكيفية عودة الأمور إلى مجاريها. وقد صدرت تقديرات بأن البلد يحتاج إلى 5 مليارات دولار لعودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل 17 تشرين الأول، وإلى 10 مليارات لنشهد تحسناً في الوضع. من أين تأتي هذه الأموال إذا غابت القروض والهبات؟ واحد من الطروحات كان استعادة أموال المصارف المودعة في المصارف المراسلة. لكن الأساس، كان في الطلب إلى مصرف لبنان التحقيق بالأموال التي حوّلت إلى الخارج في عام 2019. وقد التزم سلامة التحقيق بهذه الأموال، حيث يفترض أن تبدأ هيئة التحقيق الخاصة بجردة للمبالغ التي حوّلت، فإذا كانت غير شرعية، وفق التوصيف القانوني، فيجب أن تُستعاد. وقد شرح النائب حسن فضل الله، بعد الجلسة، أن هذه الأموال هي: أموال الإثراء غير المشروع، أموال الفساد، والأموال التي ليس لها إثبات عن مصدرها، مذكّراً بأنه لو طبق القانون 2015/44، لما حصلت هذه التحويلات. فهذا القانون يمنع أي شخص يتقاضى أموالاً من المال العام بإجراء تحويلات من دون التدقيق في مصدر أمواله، وإن لم تكن مصادرها واضحة تكون أموال فساد وإثراء غير مشروع.
بالنتيجة، أقرت اللجنة:
ــــ مشروع موازنة 2020 مع خفض يصل إلى 979 مليار ليرة.
ــــ تأمين الاعتمادات لـ 12 ألف مضمون اختياري (25 مليار ليرة).
ــــ توصية بتسهيل التحويلات المصرفية إلى الخارج للطلاب لتسديد أقساطهم ومستلزماتهم.
ــــ تسديد مستحقات أساتذة كلية الفنون، الفرع الرابع، في الجامعة اللبنانية قبل نهاية السنة بحسب كتاب رئيس الجامعة.
ــــ فرض الرقابة على كل المؤسسات والرقابة المسبقة على الهبات والقروض، وإدخال عائدات الخلوي إلى الخزينة.
ــــ حماية صغار المودعين من خلال رفع للضمانة من 5 ملايين ليرة إلى ٧٥ مليون ليرة.
ــــ تعليق المهل 6 أشهر للقروض المتعثّرة السكنية والصناعية والزراعية.
ــــ تمديد مهل الدفع والإعفاءات للمستحقات الضريبية على أنواعها ٦ أشهر.
خفض الفوائد المصرفية على الحسابات المدينة بدءاً من ٥/١/٢٠٢٠ أسوة بالفوائد على الودائع.