في 16 كانون الثاني المقبل، يعقد قاضي التحقيق في بيروت، جورج رزق، جلسة جديدة في ملف «المخالفات الطبية والآداب الطبية في مستشفى بيروت الحكومي». مع هذا التاريخ الجديد، يدخل هذا الملف المقترن باسم رئيسة قسم الصيدلة في المستشفى منى البعلبكي، عاماً جديداً في «عهدة» القضاء.عام آخر، لا يبدو أنه الأخير، يضاف إلى عشر سنواتٍ أخرى من عمر القضية التي فُتحت في آب من العام 2009، لدى التفتيش المركزي. يومها، صدر عن التفتيش تقريران (2009، 2014)، كانت خلاصتهما أن البعلبكي ومن عاونها وغض الطرف عنها مدانون بجرم حرمان مرضى الداء الخبيث من فرص النجاة. بعد هذين التقريرين، جاء تقرير ثالث عن الهيئة العليا للتأديب (2017) الذي كان خلاصة «حكم» جديدة كانت كافية لإثبات الجرم ذاته: «التسبب بالموت». وقضى يومها بـ«عزل» البعلبكي بسبب «التصرف بالأدوية المقدمة من وزارة الصحة لمصلحتها الشخصية واستبدالها بأدوية أخرى غير فعّالة وفاسدة ومنتهية الصلاحية، وإعطائها لعدد كبير من المرضى المصابين بالسرطان، ومعظمهم من النساء والأطفال، من دون علمهم ومعرفتهم، ما حرمهم فرص الشفاء، وربما سبّب وفاتهم».
مع ذلك، لم تحرّك النتائج تلك القضاء، برغم إحالة الملف إلى النيابة العامة التمييزية منذ العام 2009. وبقي جرم البعلبكي جرماً إدارياً لا جزائياً. وحدها، من دون «الضالعين» معها. لكن، ذلك، لم يعفها من الحرية، إذ بعد قرار العزل وتجريدها من إذن مزاولة المهنة، هربت البعلبكي، التي عملت لأربع سنواتٍ (2005 ـ 2009) في «بيروت الحكومي»، إلى خارج البلاد، فيما جريمتها التي ارتكبتها لا تزال «رهن التحقيق». لا موقوفين على ذمة التحقيق ولا من يوقّفون.
اليوم، مع تحديد جلسة جديدة، ينضم تقرير آخر إلى الملف. هذه المرة، التقرير صادر عن لجنة علمية كلفها رزق تحديد المسؤوليات ومدى مخالفة «المرتكبين» للنصوص القانونية والآداب الطبية. وقد ضمت اللجنة التي رأسها نقيب الأطباء شرف أبو شرف، كلاً من الدكتورة ماري خوري (نقيبة الصيادلة سابقاً) والدكتور زياد نصور (نقيب الصيادلة سابقاً) والدكتور ميشال سعاده (اختصاصي في أمراض الدم والأمراض السرطانية) والدكتور رياض عاكوم (اختصاصي في أمراض الدم والأمراض السرطانية) والدكتور ربيع سعيد (اختصاصي في أمراض الدم والأورام السرطانية).
لم يخرج هذا التقرير، الذي أودع الملف قبل أربعة أسابيع، عن سياق الخلاصات السابقة التي تدين البعلبكي وغيرها. لكنه، كان إثباتاً إضافياً على «المخالفات» الحاصلة، كما يسميها التقرير، والتي خرقت بشكلٍ واضحٍ وصريح ما تنص عليه القوانين والآداب الطبية. فقد وضع البعلبكي وغيرها أمام مسؤولية مباشرة عن الضرر الذي لحق بالمرضى وبالمستشفى العام. وأشار في متنه إلى التصرفات «التي تدل على سوء أمانة» والى «غياب السجلات وبروتوكولات تحضير الأدوية ما يدل على سوء نية وإهمال ناهيك عن الخطر الذي يتعرض له المريض».
أما اللافت فيه فهو تعرية الضالعين مع البعلبكي، وكل «من تواطأ وسهّل وغضّ الطرف ونفّذ واستفاد». إذ سماهم بأسمائهم، وكان لكلّ منهم «درجته» في الجرم.
هكذا، حمّل التقرير، بالدرجة الأولى، البعلبكي مسؤولية «الإضرار بسلامة المرضى وتزوير الفواتير والسرقة واستعمال أدوية منتهية الصلاحية لفترات طويلة عن سابق تصميم وتصور». كما كان لطبيب الأورام السرطانية ر. ج. جزء من المسؤولية يضاهي ما مسؤولية البعلبكي، إذ أنه «استفاد مادياً وأضرّ بسلامة المرضى واستعمل أدوية منتهية الصلاحية وضخّم الوصفة الطبية لفترات طويلة». وإليهما، كانت المسؤولية التي حمّلها التقرير لرئيس مجلس الادارة وموظفي الصيدلية والمسؤولين في المستودع والمسؤولين عن امانة الصندوق والمسؤولين عن برنامج الكومبيوتر والرؤساء المباشرين وغير المباشرين «سبب عدم إخبار المسؤولين عنها وتركها تعمل على هواها والسكوت عن أخطائها وعدم أمانتها» بعدما «لزموا الصمت حيال الأخطاء اليومية».
هكذا، وزّع التقرير المسؤوليات، وعمل على إعطاء «كل ذي جرم» حصته من المسؤولية، مستعرضاً عينة من «الشوائب» التي كانت سائدة فترة «حكم» البعلبكي في صيدلية المستشفى بين 2006 و2009، ومنها:
- تشريك أدوية للمرضى بهدف الإستفادة الشخصية، من خلال تقسيم إبرة الدواء لمريضين، وحرمانهما من الجرعات المطلوبة.
- بيع وإخفاء أدوية مجانية هي أصلاً للمستشفى.
- منح أدوية من صيدلية المستشفى.
- تخزين أدوية في بيت البعلبكي.
- بيع نقدي في الصيدلية خارج صندوق المستشفى، مع عدم تعويض الكمية المباعة أو تعويضها بعينات مجانية أو أدوية جينيريك.
- عدم وجود سجل لعمليات البيع والإستعارة.
ـ شراء أدوية «cytochristine» الرخيصة الثمن، غير المسجلة في وزارة الصحة وغير المقيّمة من لجنة الصيدلية والعلاج في المستشفى ومن دون علم الأطباء المعالجين، وإدخالها إلى النظام المحاسبي على أنها أدوية «vincristine» الباهظة الثمن.
- بيع واستخدام أدوية منتهية الصلاحية بعد إجراء تعديل على تاريخ انتهاء صلاحيتها.
- قبض مبالغ من صندوق المستشفى بدل شراء أدوية من دون شرائها.
- إخراج دواء من الصيدلية أواخر العام 2008 بقيمة 45 مليون ليرة من دون تبرير.
في التقرير الذي أعدته اللجنة، تخطت البعلبكي في «صلاحياتها» (الواسعة بحكم رئاستها لقسم الصيدلة) حدود الربح، لتطال حياة المرضى. فهي من يقرر «ما هي الأدوية التي ستدخلها إلى صيدلية المستشفى، من دون أن يكون هناك سجل رسمي». وعندما يتوفى شخص ما، كانت تنقل أدويته المتبقية إلى «حساب خاص وهمي» للمستشفى وتفوترها لاحقاً لمريض آخر، أي أن الدواء نفسه يوضع على فاتورة المتوفي في المرة الأولى، وعلى مريض آخر! كما كانت تطلب أدوية من وزارة الصحة من دون أن تسجلها، وجلها لعلاج الأمراض السرطانية، «وتبيعها» لاحقاً. ووصل بها الأمر حد «تشريك» مريضين بدواء واحد مع فوترة عبوة على كل مريض. ولفتت اللجنة إلى خطورة هذا الأمر، خصوصاً أنه لم يكن معلوماً «ما إذا كان التشريك تم في الوقت نفسه أو في أوقات مختلفة أو أيامٍ مختلفة، وهو أمر غير علمي وغير صحي». أما ما يبقى من أدوية «التشريك»، فكانت إما تبيعه أو تصحّح به «المخزون الذي يتعرّض للنقص» بسبب تصرّفها بالأدوية.
وزّع تقرير اللجنة مسؤولية الفضيحة على كثيرين من المدير العام إلى أمين المستودع


لم تتوقف «صلاحيات» البعلبكي عند هذا الحد، فتهمتها الأساس «حرمان مرضى السرطان من فرصة الشفاء» عبر استبدال أدويتهم الأصلية بأدوية جينيريك، من دون إعلام الأطباء، وتسعيرها بسعر الدواء الأصلي. هكذا، كانت تستبدل دواء «VINCRISTINE» الباهظ الثمن لعلاج بعض أنواع السرطان بدواء «CYTOCHRISTINE» الرخيص وغير المسجّل في وزارة الصحة. وهذا ما يخالف قانون ممارسة المهنة إذ لا يجوز اللجوء إلى البدل «إلا إذا وافق الطبيب المعالج والمريض». كما «يجب أن يعرض على لجنة في المستشفى تضم الصيدلي المسؤول والاطباء»، وهو ما لم يحصل أبداً. وبحسب ع. ي.، أحد الصيادلة في قسم المخازن، كانت البعلبكي «تشتري هذا الدواء بسبب رخصه لبيعه بسعرٍ أعلى، وليس بسبب عدم وجود الدواء الأصلي». كما أنها «اشترت في إحدى المرات كمية من السيتوكريستين من شركة يونيفارم تفوق حاجة المستشفى». ثم «قامت بعمليات تغيير الأسعار وشطب أسماء الأدوية وتبديلها على الكومبيوتر». وهي لم تتوقف عن الإستعانة بدواء «CYTOCHRISTINE»، برغم كتب وصلت إلى المستشفى تشير الى عوارض جانبية تصل حدّ التسبب بالشلل. وفي هذا الإطار، لفت الطبيب حسن خليفة في تقرير قدمه إلى أن «الدواء آذى أكثر من مريض وأن 5 أطفال واجهوا عوارض جانبية وأحدهم أصيب بالشلل». والفضيحة الأكبر، بحسب ما أشارت الصيدلانية ز. ع. أثناء استجوابها، أنه «بعدما تسبب الدواء بالشلل لبعض الأطفال أوقفت استعماله لهم لكنها أكملت إعطاءه للكبار».

متاجرة بالأدوية
طوال فترة «خدمتها» في المستشفى، كانت البعلبكي «تبيع المرضى المقيمين وغير المقيمين والموظفين والمعارف أدوية تقدمها وزارة الصحة وغيرها، وفي غالب الأحيان خارج النظام الآلي ومن دون أن قبض ثمنها على الصناديق المختصة». أما قيمة المبيعات، فكانت توضع «إما نقداً لدى الصيدلي التقني ن. د. ريثما تتسلمها البعلبكي أو من خلال إيداعها في حساب خاص مستقل أنشئ تسهيلاً للبيع والإعارة»، وهو ما يخالف قانون مزاولة المهنة الذي يمنع «صيدليات المستشفيات من البيع إلا للمرضى أثناء علاجهم في المستشفى فقط». وعندما كان أحد المرضى يطلب فاتورة بالدواء، كانت البعلبكي تحضّر «Out cash voucher» عبر جهاز الكومبيوتر يعطى للمريض، ويُلغى فوراً عن النظام ولا يبقى له أثر في النظام المحاسبي. وكان ينتج عن هذا التلاعب نقص الدواء في رفوف الصيدلية، عملت على تغطيته «بالأدوية المجانية وأدوية التشريك».

«إعارة»... وأدوية فاسدة
بالإعارة، كانت البعلبكي «تستر» عملها. صحيح أن استعارة الأدوية في المستشفيات عامة ليست ممنوعة في بعض الحالات، إلا أن ذلك لا يكون إلا بتوافر شرطين: أولهما تسجيل الدواء المستعار وتوثيقه في سجلات خاصة وثانيهما أن يكون لمرضى المستشفى فقط. إلا أنه، بحسب اعترافات البعلبكي، فقد كانت تعير الأدوية من صيدلية المستشفى العام لمن يطلب من «معارفها»، ومنهم على سبيل المثال المدير العام للمستشفى و. و. «الذي استعار عدة أدوية ولم يردّها»، وع. خ. أحد المستشارين السابقين في وزارة الصحة الذي «استعار دواء بستة ملايين ليرة»، وأمين المستودع ع. ح. ومساعد المدير العام ب. م. وكذلك ح. م.
«الدكانة» التي كانت تديرها البعلبكي وتدرّ عليها أرباحاً على حساب صحة المرضى، كانت محمية من الكل. والدليل؟ قائمة «المستعيرين» الدائمين للأدوية، ومنهم موظفون ومسؤولون في المستشفى، وآخرون من وزارة الصحة، إضافة الى قائمة من «الاصدقاء».
أدوية كثيرة استخدمتها البعلبكي، خارج صلاحيتها، للمرضى، من دون علمهم أو علم الطاقم الطبي. فهي أعطت أدوية منتهية الصلاحية أو فاسدة، أو في أحسن الأحوال بتواريخ مغايرة لتواريخها الحقيقية. ومن هذه الأدوية التي استخدمتها لفترة من الزمن: avastin وdexamethason وondansetron وtamiflu وtarivid وbiosetron. كما كانت تعمل على تغيير صلاحية بعض الأدوية وبعض أسماء الأدوية واستبدال دواء أصلي بآخر جينيريك، وعاونتها في ذلك الصيدلانية م. ح. كما أنها كانت تبيع أدوية ممهورة بختم وزارة الصحة الى صيدليتين خاصتين تعاودان بيعها لمرضى السرطان في المستشفى!
لم تكن البعلبكي وحدها المسؤولة عما كان يحدث في «بيروت الحكومي». فيما كانت تخالف قانون مزاولة مهنة الصيدلة، كان غيرها يخرق قانون الآداب الطبية، ومنهم الطبيب ر. ج. ولهذا الأخير قصة تستحق أن تُروى مع المريضة ف. ب. التي شخّص طبيب الأشعة و. ع. في مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك عام 2007 إصابتها بسرطان الثدي. لجأت المريضة إلى «بيروت الحكومي» للتأكد من الاصابة. وبحسب تقرير الدكتورة سهام فليفل، طبيبة الأنسجة، «جاءت النتيجة ان لا وجود لمرض السرطان في الثدي». وقد أبلغت فليفل خطياً الدكتور ر. ج. ورئيس الدائرة في المستشفى الدكتور غ. ن. بأنه لا وجود للسرطان في النسيج. لكن، رغم ذلك، «خضعت المريضة للعلاج الكيميائي بناء على تشخيص طبيب مستشفى دار الأمل، بقرار من الدكتور ر. ج. في وقت لم يكن هناك رأي حاسم بوجود سرطان، ما يضعها في دائرة الخطر»، إذ أن «علاج الأدوية الكيميائية في غياب المرض يسبب لاحقاً أمراضاً خبيثة ويؤثر على مناعة الإنسان ويؤدي الى الموت»! فهل كان الطبيب على دراية بما فعل؟ وهل فعله عن سابق تصميم؟ الإجابة قد تكون في ما روته للجنة الممرضة في المستشفى ت. ح. لدى استجوابها. إذ أكّدت أنها «على مدى شهرين، استحصلت بناء على طلب الدكتور ر. ج. على دواء HERCEPTINE 2 AMP باسم خالتها التي لم تكن بحاجة إليه»!



من 1 كانون الثاني 2008 ولغاية 7 نيسان 2009 (15 شهراً) وبوجود منى البعلبكي، كان اجمالي المدخول في الصيدلية 131 مليوناً و369 ألفاً و548 ليرة. بعد ابعادها، وخلال 8 أشهر فقط في العام 2009، بلغ إجمالي المدخول 305 ملايين و924 ألفاً و967 ليرة.
■ ■ ■

تذكر الصيدلانية م. م. بأنها أعطت المريضة ر. س. 440 ملغ من دواء herceptin بأمر من البعلبكي فيما كان يفترض أن تأخذ 530 ملغ، «وطلبت مني تسجيل الكمية كاملة على حساب المريضة».
■ ■ ■

يذكر التقرير أنه في إحدى المرات أرسل وكيل إحدى شركات الأدوية 150 علبة مجانية من دواء nexium 20 mg، سحبتها البعلبكي وحفظتها في خزانة في مكتبها بحجة أن الشركة ستستردها لأنها أرسلتها عن طريق الخطأ فيما كان يفترض أن تكون الكمية 30 علبة مجانية فقط.
■ ■ ■

سحب المدير العام للمستشفى و. و. كمية كبيرة من الأدوية المقدمة مجاناً للمستشفى من قبل وزارة الصحة وسلمها إلى جمعية «أجيالنا» (تديرها زوجته)، وطلب من الصيدلي المسؤول عدم تسجيلها في سجلات الصيدلية.