فراس، ذلك الشاب الذي لطالما كان حالماً ببلد لا يطرد أبناءه، تحوّل بعد انتهاء دراسته الجامعية إلى واحد من المطرودين. تنقّل بين أكثر من بلد لما يزيد على 15 عاماً، قبل أن يقرر العودة إلى بلده. منذ نحو سنة، لا يزال يبحث عن عمل. لم يجد. لكنه في 17 تشرين الأول وجد نفسه جزءاً من إرادة التغيير، التي حملها باكراً، منذ ما قبل انتسابه إلى الحزب الشيوعي، وإلى ما بعد ابتعاده عن التنظيم.عندما هوجم المتظاهرون على جسر الرينغ في بداية الشهر الفائت، كان من القلة التي دافعت عنهم. وكان من القلة التي واجهت المهاجمين.
واظب على النزول إلى الشارع، في وجه تحالف زعماء الطوائف ورأس المال. لكن ليلة السبت لم تكن كغيرها من ليالي الانتفاضة. أفرغت السلطة حقدها كما لم تفعل من قبل. على مداخل ساحة النجمة من ناحية بلدية بيروت، تجمع المتظاهرون. شعاراتهم تريد تحرير الساحة وإعادتها إلى دورها الأول: ساحة عامة. بدا ذلك المطلب تعجيزياً بالنسبة إلى شرطة مجلس النواب. ومقابل الهتافات، التي لم ترافقها أي محاولات جدّية لاختراق الحواجز الأمنية والحديدية المؤدية إلى الساحة، انطلقت عملية الانتقام. هاجم عناصر شرطة المجلس المتظاهرين بعنف مفرط. كان القرار قد اتخذ بالضرب «بيد من حديد». ومقابل العنف الرسمي، كان الناس إما يهربون أو يحاولون، بما استطاعوا، الرد على مصدر العنف. الحجارة كانت الأداة الأنجع. ازدادت الهتافات وركزت على نبيه بري وسعد الحريري. الأول حوّل ساحة النجمة إلى ثكنة محظورة على الناس، والثاني لا قبول لعودته إلى تأليف الحكومة. النواب كانوا بدورهم مطالبين بالتعبير عن رأي الناس، بتسمية شخصية من خارج الطقم الحاكم.
الهراوات لم تميّز بين رأس وكتف وقدم. بين كهل وشاب. بين امرأة ورجل. الكل كان مباحاً ضربه. والكل نال نصيبه من العنف الرسمي. فراس كان واحداً منهم أيضاً. كان بين 6 رجال يتناوبون على ضربه. أخطرهم ذلك المدني. هو أكثر من مندسّ أو مخبر. مهما يكن، اختار أن يكشف هويته، لأنه لم يستطع مقاومة «إغراء» ضرب الناس. على ذمة عماد عثمان، هؤلاء ليسوا عناصر حزبيين أو تابعين لحرس المجلس. هم استقصاء، ينتمون إلى قوى الأمن الداخلي. هكذا قال من وسط بيروت، حيث نزل أمس كمن يزور مسرح الجريمة بعد تنفيذها. لاحقاً، عاد عثمان عن كلامه، وقال لـ«أم تي في» إن الذين كانوا بلباس مدني هم من استقصاء شرطة مجلس النواب لا قوى الأمن الداخلي. لكن ذلك لا يغيّر في المشهد.
تركيبة غريبة كانت تضرب فراس كما ضربت غيره. شرطة المجلس كانت الأكثر حضوراً. الجيش بشكل أقل، وطبعاً قوى الأمن، عسكريين و«مدنيين». لشدة الضرب، تأثر أحد ضباط قوى الأمن. حاول حماية فراس فنال نصيبه. هراوة واحدة قادته إلى مستشفى الوردية، فجاور من حماه. كانت النتيجة كسراً في يده.
نجح فراس أخيراً من الوصول إلى ساحة النجمة. دخلها متورماً. رُمي على الأرض إلى جانب عدد من رفاقه، الذين ضُربوا بدورهم. أحد الصحافيين، وكان يوثّق ما يجري، هاله المشهد. وقد خوّلته بطاقته الدخول إلى الساحة. حمل فراس من دون أن يعترضه أحد، وأخرجه من المدخل الذي يشرف عليه الجيش. هناك أعطوه الأمان. أدخل المصاب إلى سيارة الإسعاف ونُقل إلى المستشفى. تبيّن بالنتيجة وجود كسر في عظمة العين، وآخر في إصبع يده. الركبة متورّمة، والدماء تسيل من أكثر من مكان في جسده. اللافت أن معظم الضربات كانت على الرأس، ولذلك طلب الأطباء وضعه تحت المراقبة لمدة 24 ساعة. لماذا يُضرب متظاهر على رأسه؟ لا أحد يملك الإجابة إلا أغنية كان يرددها متألماً: «إفلت كلابك في الشوارع واقفل زنازينك علينا، عمال وفلاحين وطلبة دقت ساعتنا وابتدينا».
عثمان يبرّئ شرطة المجلس من «المندسّين» ثم يتراجع


كانت «الحرب» مستمرة في ذلك الوقت. لاحقت قوات مكافحة الشغب في قوى الأمن الداخلي المتظاهرين إلى محطة شارل حلو، أي نحو كيلومترين بعيداً عن أقرب مدخل لساحة النجمة. حجة هؤلاء أنهم أرادوا أن يحموا المتظاهرين من حرس المجلس! والحماية تقتضي استعمال الرصاص المطاطي ومئات القنابل المسيّلة للدموع، التي أضاءت سماء المنطقة، كما سبق أن فعلت المفرقعات التي رميت على القوى الأمنية من «شباب الخندق». الاستيعاب هناك تحول إلى جنون هنا، فيما كانت أعداد المصابين تزداد باطراد، مع محاولات للرد على العنف برمي الحجارة والإصرار على المواجهة. القنابل المسيّلة للدموع، وأغلبها منتهي الصلاحية، لم تميز مدنياً عن عسكري. ربما كانت الأولوية لاستعمال «ستوك» القنابل بدلاً من إتلافها. عسكريون كثر فقدوا وعيهم من شدة الغثيان. كان المشهد مضحكاً مبكياً.
الجولة الأولى من العنف، بدأت نحو السابعة وانتهت نحو العاشرة، قبل أن تستعيد القوى الأمنية نشاطها قبيل منتصف الليل مفجّرة المواجهة الثانية. بين الواحدة والخامسة صباحاً نُقل 12 مصاباً إلى مستشفى أوتيل ديو، 15 إصابة إلى مستشفى الوردية و3 إلى الجامعة الأميركية. فاق العدد الإجمالي للمصابين، الذين استدعت حالاتهم نقلهم إلى المستشفيات، الخمسين شخصاً. لجنة المحامين المتطوعين للدفاع عن المتظاهرين أحصت 25 مصاباً في الوردية، 8 في الجامعة الأميركية، و18 في أوتيل ديو. أما الموقوفون الذين نقلوا إلى مراكز الاحتجاز، فكانوا عشرة موقوفين، خرجوا جميعاً، باستثناء موقوف واحد عليه أحكام سابقة.
من ظن أن العنف يبعد الناس عن الساحة خاب أمله مرة جديدة. آلاف عادوا إلى الشارع أمس، رفضاً لتكليف سعد الحريري تأليف الحكومة ورفضاً لتشكيل حكومة من قوى السلطة.



الحسن دعت «السلميين» للخروج من الشارع!
القمع الذي مارسته القوى الامنية ضد المتظاهرين أول من أمس، تكرر ليل أمس، لكن بعدد إصابات أقل من اليوم السابق. يوم أمس، قررت مجموعات من المتظاهرين «الانتقام» لما جرى في اليوم السابق، وهاجمت القوى الأمنية، لكن بالمفرقعات التي لم تؤدّ إلى وقوع إصابات بين الأمنيين. القوى الامنية تصرّفت بحدة أقل من اليوم السابق، وحصرت عملهاً جغرافياً، فلم تخرج من محيط ساحة النجمة وساحتي الشهداء ورياض الصلح والرينغ. واعتمد المتظاهرون بصورة أساسية على عشرات المتظاهرين الآتين من الشمال، سواء من طرابلس او عكار، لمواجهة القوى الأمنية. وارتفع مستوى التوتر بعد توجيه شتائم من قبل المتظاهرين لرئيس المجلس النيابي نبيه بري، فتجمّع العشرات في منطقة الخندق الغميق. وقبل حصول صدام بينهم وبين المجموعات الشمالية، أجرت قيادتا حركة امل وحزب الله اتصالات بالجيش لطلب تدخّله لمنع المتجمعين في الخندق من الوصول إلى ساحتي الشهداء ورياض الصلح، فيما عمّما على عناصرهما في المنطقة بوجوب منع المشاركة في أي تحرك باتجاه الساحات. وبالفعل، نشر الجيش ثلاثة «خطوط فصل» بين الفريقين.
وبعد إحراق خيمتين عائدتين للمعتصمين في ساحة الشهداء، دعت وزيرة الداخلية والبلديات في حكومة تصريف الأعمال ريا الحسن في حديث تلفزيوني المتظاهرين «السلميين» الى ترك الساحات، مشيرة الى «مندسين افتعلوا المواجهات بين المتظاهرين والقوى الأمنية». وأعربت الحسن عن مخاوفها من أن يكون هناك مخطط للتأثير على الإستشارات النيابية الملزمة لتسمية رئيس الحكومة المكلف اليوم»، لافتة إلى أن «القوى الأمنية لم تستطع أن تحدد حتى الآن الجهة التي يأتي منها المندسون»، مؤكدة إستعدادها للحوار مع المتظاهرين.