«لا تهديد المصارف ولا إقفالها عنوةً ولا محاولات تخريبها وتشويهها ستأتي للمواطنين بالنتيجة المرجوّة، بل هذا ما سيسبّب ضغطاً إضافياً على المصارف». بهذا التهديد الواضح، خرج رئيس جمعية المصارف، سليم صفير، أمس على المودعين الذين تحتجز البنوك ودائعهم وأموالهم الموجودة في حساباتهم الجارية ورواتبهم الموطّنة... وصولاً إلى أموال مزارعي التبغ، بقرار غير قانوني من الجمعية التي يرأسها صفير نفسه. أراد أن يقول للزبائن: عليكم أن تصمتوا وألا تطالبوا بحقوقكم، وألا «تشوّهوا صورتنا»، وإلا فستخسرون أكثر.في مقابلة مع جريدة «النهار» التي تدّعي تبنّي «الثورة»، فيما هي تنطق منذ عقود باسم الطبقة الحاكمة، بسياسيّيها ومصرفيّيها ورجال أعمالها، قال صفير إن «المصارف تعاني من فساد الطبقة السياسية». مَن يشكو من فساد ما يسمّيه «الطبقة السياسية» ليس سوى «كبير المصرفيين» الذين سيسجّلون نهاية العام الجاري في دفاترهم أكثر من 12 مليار دولار كإيرادات من المال العام (في سنة واحدة، ستحصل المصارف على أكثر من 6 مليارات دولار من الموازنة كخدمة للدين العام، و6 مليارات دولار من مصرف لبنان فائدة الأموال المودعة لديه)، والذين حصلوا على أكثر من 81 مليار دولار من خزينة الدولة كخدمة للدين العام بين عامَي 1993 و2018 (راجع «الأخبار»، ملحق «رأس المال»، 25 تشرين الثاني 2019، تقرير توفيق كسبار في «تشريح الأزمة النقدية»). هو صاحب مصرف كانت قيمته تساوي أقل من عشرين مليون دولار مطلع تسعينيات القرن الماضي، فإذا برأسماله يتجاوز المليار دولار اليوم (هذا عدا عن الأرباح التي تم توزيعها على مدى ثلاثة عقود). للأمانة، الرجل نطق بالحق. ثمة فساد. لكنه حاول التعمية، إذ حصره بما سمّاه «الطبقة السياسية». يريد إخراج نفسه، وإخراج زملائه، من دائرة الحكم. يريد مرة جديدة تأكيد كذبة مفادها أن أصحاب المليارات، الذين يتحكمون بالاقتصاد، ويحتكرون الثروة، ولأجلهم تُقرّ القوانين، ومنهم رئيس الحكومة ووزراء ونواب، يريد تأكيد أن هؤلاء لا صلة لهم بالحكم، وأن في لبنان «طبقة سياسية» مستقلة عن الطبقات الاجتماعية. يريد أن يقول للناس إن الأزمة التي تعانون منها ليست نتيجة «حرب طبقية» يشنّها عليكم أبناء «الطبقة العليا» في المجتمع، طبقة الـ 1 في المئة من اللبنانيين التي تحتكر تقريباً كل شيء، ومعها ميليشيا البورجوازية و«البورجوازية المستأجَرة»، والتي لأجلها صُمِّم النموذج الاقتصادي المعمول به في لبنان، لا بل هي صمّمته، بالتكافل مع «المركز الرأسمالي» في العالم (الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة حالياً) الذي تُعدّ المصارف رأس جسره في لبنان. حرب شعواء لا هوادة فيها، تُنهب فيها أموال اللبنانيين، عبر ألاعيب كثيرة، أبرزها لعبة الدَّين العام التي حوّلت أكثر من ثلث أموال دافعي الضرائب إلى أصحاب المصارف وكبار المودعين، أي، إلى «الطبقة الحاكمة» التي يحاول صفير عبثاً إخفاء وجودها.
لم يصدُق صفير حصراً في تهديده، ولا في الحديث عن فساد. صدق أيضاً في عبارة أخرى قالها: «ما يريد منه الثوار شبراً، المصارف تريد منه أميالاً». صحيح. «الثوار» يريدون أموال الناس المحتجزة لدى صفير وزملائه. يريدون استعادة المال العام الذي يتحوّل، عبر الموازنة وسياسات رياض سلامة، إلى مال خاص لأصحاب المصارف وكبار المودعين. أما المصارف، فتريد هذا المال أضعافاً مضاعفة. وهي، أي المصارف، فيما تشكو الظلم اللاحق بها من قبل «الطبقة السياسية»، تحتجز أموال الناس، من دون أن تكترث لرد فعل القضاء. فالقرار الذي أصدره القاضي الشجاع أحمد مزهر، قبل ثلاثة أسابيع (راجع «الأخبار»، 26 تشرين الثاني 2019)، لجهة إلزامه مصرفاً بتحرير وديعة محتجزة، يبدو أنه كان الاستثناء الذي يؤكد القاعدة. فبعد أيام قليلة على قرار مزهر، صدر قرار معاكس في جبل لبنان. القاضي المنفرد المدني في بعبدا، الياس صلاح مخيبر، أصدر يوم 28 تشرين الثاني 2019 حكماً ردّ فيه طلب مودعة بتحرير وديعتها. وذريعته أن المستدعية لم «تُثبِت توافر عجلة ملحّة وضرورة قصوى تحتّم سحب المبالغ المودعة في حسابها بالدولار الأميركي كلياً، ولم تبرز ما يُثبت قيمة المبالغ المستحقة بذمتها وماهية الالتزامات الواقعة على عاتقها والتي تستوجب منها الإيفاء دون إبطاء..». القاضي يقول هنا إن المودِع يجب أن يُثبت أن حاجته للمال ملحّة، وإلا، فإن قضاء العجلة لن يجد نفسه معنياً بالنظر في شكواه، وأن في مقدور المصارف أن تحتجز أمواله إلى الأبد، وأن تردّها له بالطريقة التي تراها مناسبة. قرار القاضي مخيبر ليس سوى أولى نتائج «تعميم» غير رسمي، صدر من جهات عليا في القضاء، طُلب فيه من القضاة عدم قبول دعاوى العجلة من المودعين ضد المصارف، بذريعة أن قبول الدعاوى سيؤدي إلى أزمة كبرى في القطاع المصرفي، وتالياً انهياراً اقتصادياً. في العدلية، يؤكد المطلعون أن «التعميم» اتخذ شكل التمنّي. وأن القضاة قادرون على مخالفته. وبالتالي، الرهان هنا على القضاة الشجعان، أولئك الذين لم يخضعوا بعد لنفوذ «الطبقة الحاكمة»، وعلى رأسها جمعية المصارف التي تحتجز أموال المودعين، ثم تهدّدهم بالانهيار إذا هم طالبوا بحقوقهم.