لم يكن متوقّعاً أن تنقل وسائل الإعلام الإسرائيلية كل مضمون التقدير الاستخباري السنوي الذي أدلى به رئيس وحدة الأبحاث في الاستخبارات العسكرية (أمان)، العميد درور شالوم، أمام 30 من كبار الضباط في معسكر غليلوت. صحيفة «يديعوت أحرونوت» اكتفت ببعض الخطوط العامة. وليس هذا عابراً، إذ تقلّص هامش نشر مثل هذه التقديرات بعدما أقرّ العدو منذ سنوات بأنه يتعامل مع المقاومة في لبنان وفلسطين كجهة تملك خبرة تسمح لها بتوظيف الكثير مما يتم الإعلان عنه.وتجدر الإشارة إلى أنه كلما تحقّق انتصار نتيجة شروط موضوعية وذاتية، تعززت الشروط الموضوعية، ما أمكن احتواء نتائج الأخطاء الناتجة عن قصور الفكر الاستراتيجي (الذاتية) لأي مقاومة. وكلما ضعفت الشروط الموضوعية ازدادت مخاطر الأخطاء الناتجة عن القصور الذاتي. وفي ما يتعلق بلبنان، فإنه يمثل قمة «الضعف التكويني» الذاتي على المستوى الاستراتيجي (الجغرافيا، الديمغرافيا، والإمكانات والانقسامات الداخلية) في مواجهة عدو كالكيان الإسرائيلي المدعوم من الولايات المتحدة وأوروبا. وهنا تتبدّى أهمية العوامل الذاتية التي تمتع بها حزب الله وساهمت في إنتاج الانتصارات، وتحديداً ما يتصل منها بفكره الاستراتيجي الذي أبدع استراتيجية دقيقة مكّنته من انتصارات غيّرت مجرى التاريخ، ليس بالصاروخ والعبوة، وإنما بالدرجة الأولى بفكره الاستراتيجي وهويته العقائدية التي قلّصت الهوة في عناصر القوة، في مقابل التفوّق الموضوعي للعدو.
يبقى أن هناك هامشاً مرتبطاً بماهية العدو وطبيعة نظامه السياسي لا يستطيع أن يتجاوزه، وهو ما يدفعه أحيانا للإفصاح عن بعض ما لديه لأسباب داخلية وخارجية. ومن ضمن ما أدلى به شالوم، في حضور كبار أعضاء هيئة الأركان والعمداء المركزيين في ألوية التخطيط والجمع الاستخباري والعملاني وفي شعبتي العمليات والتخطيط، إشارته إلى ما اعتبره سباق تسلح بين إسرائيل ومحور إيران – سوريا – حزب الله، انطلاقاً من أن «الجانب الثاني طوَّر قدرات تكنولوجية وقلَّص فجوات مقابل الجيش الإسرائيلي».
يندرج ما أشار إليه شالوم ضمن الاستخبارات التكنولوجية التي تراقب تطور نوعية قدرات العدو. ومشكلة إسرائيل أنه عندما لم تكن مقاومة حزب الله في لبنان تملك هذا المستوى من التطور في القدرات النوعية، استطاعت أن تفرض معادلات أنتجت تحولات تاريخية واستراتيجية في لبنان والمنطقة. فكيف إذا ما انضم هذا العامل إلى عناصر القوة الذاتية الأخرى؟
رئيس أركان الجيش أفيف كوخافي، الذي كان حاضراً أيضاً، كان قد نبّه إلى هذه الخطورة في أول جلسة عقدها لهيئة أركان الجيش، في 16/1/2019، وتحدث فيها عن حزب الله وحماس اللذين تحولا إلى جيشين، مشيراً إلى أن «العدو يقلص الفجوة بينه وبين الجيش الإسرائيلي، الذي عليه التحرك لتغيير المسار وبسرعة، وإلا ستواجه إسرائيل المزيد من جولات القتال، ونهايتها ستكون تفويت فرص من دون نتيجة واضحة». وأتى كلام شالوم ليؤكد أن ما تخوّف منه كوخافي في حينه آخذ بالتحقق. وكما هو معلوم فإن الجمهورية الإسلامية في إيران هي مصدر هذا التطور الذي تنشر ثماره في المنطقة، وهو ما أشار إليه شالوم أيضاً بالقول: «إنه مع كل جهود الكبح للجيش الإسرائيلي وأجهزة الاستخبارات المختلفة، فإن التعاظم الإيراني في المنطقة سجّل قفزة بعشرات النسب المئوية».
كوخافي: 20 تحولاً استراتيجياً سلبياً على إسرائيل خلال سنة


ينطوي هذا التقدير على إقرار صريح بفشل المعركة بين الحروب في تحقيق ما كان مؤمّلاً منها لجهة كبح نشر القدرات العسكرية المتطورة في الساحتين السورية والإقليمية، وهو ما قد نشهد له نتائج وتداعيات لاحقة. وتخشى تل ابيب أن تستفيق على واقع صادم في سوريا والمنطقة، كما حصل مع لبنان. ويؤشر هذا التقدير أيضاً إلى أن اسرائيل «المهنية»، وليست السياسية والدعائية، لا تنظر برضا إلى النتائج التي حقّقها الجيش من نتائج على هذا المسار. بل يذهب في التقدير إلى أنه «صحيح أن البنية التحتية الإيرانية في سوريا تضررت نتيجة العمليات الجارية للجيش الإسرائيلي، ولكن يمكن الافتراض أنه في السنة المقبلة سينجح الإيرانيون بتقريب الصواريخ الدقيقة إلى حدود هضبة الجولان».
مع أن الاستخبارات لم تفصح سوى عن اليسير في هذا المجال، تجدر الإشارة إلى أن التقدير الاستخباري عادة ما يكون هو المنطلق لتقدير الوضع الاستراتيجي الذي في ضوئه تتم دراسة الخيارات المضادّة. لكن من الواضح أن تقدير الجهات المهنية للعدو هو أن عناصر القوة في البيئة الإقليمية تتطور لمصلحة محور المقاومة. وهو ما يُفسر خلفية ارتفاع منسوب الصراخ في كيان العدو. ويعني ذلك أيضاً، من منظور إسرائيلي، ارتفاع منسوب المخاطر بشكل غير مسبوق، ما يوجب على كيان العدو وضع خطط بناء قوة تتلاءم مع متطلبات مواجهة هذا التطور.
قد يكون الأكثر ملاءمة أن نختم بتمرين ذهني بهدف كشف ما لم يفصح عنه المراسل العسكري لـ«يديعوت»، عندما كشف عن أن كوخافي، خلال استماعه إلى التقدير الاستخباري الذي عرضه شالوم، «سجّل بخط يده بشكل منظم ملاحظات ونقاطاً إجمالية، بلغت حوالى 20 بنداً تُفصّل تحولات استراتيجية حصلت في الشرق الأوسط في السنة الأخيرة ولها تأثير سلبي على الوضع الأمني لإسرائيل، بدءاً من تسلح حزب الله بصواريخ دقيقة وصولاً إلى عودة إيران للبرنامج النووي». ولنا أن نجول بأذهاننا في ساحات محور المقاومة ونكتشف هذه التحولات التي تخوّفت منها قيادة جيش العدو.