ينتحر شخص كل ثلاثة أيام في لبنان. هذا ما تؤكده الأرقام «الرسمية» لوزارة الصحة التي تُشير إلى «ثبات» المعدل خلال السنوات القليلة الماضية. نسبةً إلى مجتمع ديني و«جماعي» (COLLECTIVE)، يقول الاختصاصيون إنّ هذا المعدّل يُعدّ عالياً نسبياً، رغم أنه أقل من معدّلات الانتحار في البلدان الغربية. خلافاً لهذه الأرقام، ينبئ انتحار شخصين في لبنان (ناجي الفليطي وداني أبو حيدر)، في أقلّ من 48 ساعة، بسيناريو مرتقب يفيد بارتفاع المعدّل، ويُحتّم النقاش بشأن الانتحار بوصفه مظهراً يدلّ على مكمن خلل جسيم يستوطن المجتمع لا المنتحر فقط.
مجتمع ولّاد للأمراض النفسية
وفق المُعالجة النفسية وإحدى مؤسسي جمعية EMBRACE ميا عطوي، فإنّ نحو 90% من حالات الانتحار سببها أمراض نفسية مرتبطة بعوامل بيولوجية، كالاكتئاب والاضطرابات النفسية. هذه الأمراض تزيد في المجتمعات التي تغيب عنها المساواة الاجتماعية والعدالة «لأنّها تكون ولادة عوامل خطر نفسي فتتسبب بخلق صعوبات واضطرابات نفسية كالقلق والإحباط». لذلك فإن «تفاقم الوضع الاقتصادي يُفاقم مسألة التأقلم مع الوضع النفسي». تلفت عطوي إلى أن ارتفاع معدّلات الانتحار غير مرتبط بشكل مباشر بالوضع الاجتماعي والاقتصادي، لكنّ هذا الوضع يُشكّل عاملاً أساسياً وراء حالات الانتخار بين الأشخاص المهمّشين والضعفاء». وعليه، يجب الاهتمام بالصحة النفسية والتوعية (خصوصاً أن هناك مرضى لا يعرفون أنهم يعانون) من جهة، والعمل على البنية الاجتماعية والاقتصادية العنيفة التي تشكل حافزاً لليأس وبالتالي للانتحار.
وفق البروفيسورة في علم النفس العيادي في الجامعة الأميركية في بيروت، تيما الجميل، فإن الأبحاث في علم النفس واضحة جداً في هذا المجال: «أهم سبب للانتحار هو الشعور بالعجز. وغالباً ما يترافق هذا الشعور مع الفقر، لذلك تكون معدلات الانتحار لدى الفقراء أكثر. وإلى العجز، هناك الشعور بالحمل والعبء». وإذ تلفت الجميل إلى أن المرض النفسي هو السبب الأساس للانتحار، تشدّد على أن «خلفيات المرض مرتبطة بشكل كبير بالإحساس بالعجز والفقر. ولا يمكن فصل الأمرين عن بعضهما بعضاً»، لتخلُص إلى «أننا قد نشهد حالات انتحار أعلى طالما أن عوامل الغضب والإحساس بالعجز والذل ستبقى قائمة... وما يحصل ليس طبيعياً بقدر ما هو متوقّع».

مجابهة العنف الاقتصادي
يُشير المعالج النفسي شارل خاطر إلى أنّ كثيرين يعانون من تردي الأوضاع الاقتصادية لكنهم لا يذهبون الى خيار الانتحار، و«هذا يقودنا الى أهمية استخلاص العوامل المختلفة التي تحكم الانتحار، كالعامل الشخصي والبيئي والبيولوجي والتهيئة والقدرة على مقاومة المصاعب وعامل التراكم والعامل النفسي»، مشدداً على أهمية عدم حصر الانتحار في عامل من دون آخر.
وسائل الإعلام مدعوّة إلى عدم «تبسيط» أسباب الانتحار وحصرها في عامل واحد

فيما ترى الناشطة ناي الراعي أن «من الإجحاف حصر موضوع حالات الانتحار في الموضوع النفسي البحت، وفصله عن نهج الإفقار والعنف الممنهج من قبل السلطة التي ساهمت في تهميش الناس نفسياً»، مُشيرةً إلى ضرورة معالجة تلك البنية العنيفة التي ساهمت في تراكم عوامل الإضعاف والدفع تجاه الانتحار، خاطر أكد أهمية تأمين البيئة الحاضنة للشخص المعرّض لخطر الانتحار أكثر من غيره عبر إحاطته بنظام دعم تتم الاستعانة فيه بمحترف للتعامل معه. في وقت لفتت أستاذة العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية ماغي معلوف الى أن هناك انتحاراً يُعرف بـ «الانتحار الفوضوي» الذي يحصل في حالات الأزمات واللااستقرار الاقتصادي، و«معالجة هذا الواقع ضرورية لمواجهة هذا النوع من الانتحار».
هذه النقاشات تخلص إلى نتيجة حاسمة يُجمع عليها الاختصاصيون تُفيد بضرورة الاهتمام بالصحة النفسية للمجتمع اللبناني المهملة من جهة، والتصدّي للمُسببات الاجتماعية والاقتصادية التي تودي إلى الهشاشة النفسية، وبالتالي إلى الانتحار.

«عدوى الانتحار»
علمياً، ثمّة ما يُعرف بـ «عدوى الانتحار». تقول عطوي بأنّ أبرز أسباب تلك العدوى هو كيفية مُقاربة الإعلام لحالات الانتحار، وهو كلام يتوافق وما تقوله الجميل لجهة تأثير تناول قضية الانتحار على بقية الأشخاص المعرّضين له، مُحذّرة من خطر التسليط غير المسؤول على الانتحار على الآخرين. وفي السياق نفسه، يعتبر خاطر أن التركيز على حالات الانتحار «قد يؤثر على المعرضين لخطر الانتحار باعتبار أن المنتحر تمكّن، بطريقة أجرأ من غيره، من انتزاع حقه في الذهاب باعتراضه الى الحد الأقصى». لذلك، تشدد عطوي على وسائل الإعلام وأصحاب المنابر الإعلامية عدم نشر صور لوسائل الانتحار وعدم «تبسيط» أسباب الانتحار وحصرها في عامل محدد والتركيز على أن المنتحر «لا يريد إنهاء حياته، بل يريد إنهاء الوجع».
(الاتصال على الخط الساخن الرقم 1564 للوقاية من الإنتحار بالتعاون مع وزارة الصحة)