«الغنج» الذي لا يزال يسري على علاقة اللبنانيين بـ«مصاصي أموالهم»، أي المصارف، يُساهم في تعزيز شعور الأخيرة بأنّها لا تزال في موقع لا يُمسّ ويسمح لها بفرض شروطها. استأنفت عملها في 19 الشهر الجاري، «مُستقويةً» بالتدابير التي أعلنتها جمعية المصارف، وبعناصر قوى الأمن المولجين مواجهة أي مواطن يرتفع صوته مُطالباً بماله. قيودٌ أكثر تشدّداً فُرضت على عمليات الإيداع والسحب تأثّر بها المودعون، «صغار القوم» منهم بشكل خاص. وحتى مع قساوة الإجراءات، وتطبيقها بطريقة غير شرعية واستنسابية، تفاوتت القيود بين مصرف وآخر، وتحديداً في عمليات السحب والتحويل، ما حوّل هذا القطاع إلى ما يُشبه «السوق السوداء».في فرضها الضوابط، تكون جمعية المصارف قد أعطت لنفسها حقّاً، يعود في الأساس إلى مجلسَي النواب والوزراء والمصرف المركزي. من «الطبيعي» أن تملأ الجمعية ــــ برئاسة سليم صفير ــــ الفراغ الناتج من استقالة السلطات التشريعية والتنفيذية والنقدية من مسؤولياتها، وترك المودعين عرضة للمجهول، وعدم مُصارحتهم بحقيقة الأمور. انطلاقاً من كلّ هذه الظروف، قررّ النائب ميشال الضاهر تقديم اقتراح قانون مُعجّلاً مكرّراً يرمي إلى فرض ضوابط على رأس المال، أو «كابيتال كونترول». هي مادّة واحدة، تُجيز لحاكم مصرف لبنان «وضع ضوابط على حركة رأس المال عند الحاجة إليها، ولا سيّما مع وجود خلاف على تفسير قانون النقد والتسليف، بين من يعتبر أنّ من صلاحيات رياض سلامة فرض الضوابط، وبين من يقول العكس. الهدف من اقتراح القانون حماية صغار المودعين»، كما يشرح الضاهر في اتصال مع «الأخبار». يأتي الاقتراح ليضع حدّاً، في حال إقراره، لتدابير جمعية المصارف غير القانونية والاستنسابية في التعامل مع المودعين، والتي أعلنتها في 18 الشهر الجاري. تدابير قيل يومها إنّها «مؤقتة»، ورُفضت تسميتها «قيوداً»، ولكن كانت أولى نتائجها قرار القاضي أحمد مزهر إلزام «بنك بيبلوس» بتسديد قيمة الحساب العائد لشركة «كومرس إنترناسيونال» والبالغة 129 ألف يورو. «بيبلوس» كان الشرارة، وقد يكون دافعاً ليقوم كلّ مودع مُتضرّر من مقاضاة مصرفه، «لأنّ الضوابط غير قانونية. في اقتراح القانون نخلق آلية لقوننته، فلا يبقى كلّ بنك فاتح على حسابه، ويُسمح للمسؤولين بتحويل أموالهم إلى الخارج، فيما يُمنع أب من تحويل 1000 دولار لجامعة ابنه في الخارج». الهدف أيضاً من اقتراح القانون تحقيق «الأمن القومي الغذائي». فهناك أولويات يجب أن تتأمن: المحروقات، القمح، الأدوية، الحبوب للاستهلاك البشري والحيواني، الزيوت والسكر». يتم تحديد المواد المسموح باستيرادها من خلال إصدار لائحة بها. يتحدّث الضاهر عن «الكابيتال كونترول» بوصفه حلّاً مؤقتاً ووحيداً لمواجهة الوضع الحالي، «ومن لديه اقتراح آخر فليُقدمه»، مُعتبراً أنّه يُمكن تطبيقه من دون التوافق مع صندوق النقد الدولي، ويُمكن التعاون مع مكاتب عملت مع اليونان وروسيا والأرجنتين، كـ«ماتيو بيغاس دو لازار»، و«لي بوشليت»...».
في اقتراح القانون الذي سيُقدمه، لا يُحدّد «الصناعيّ» مدّة مُعينة لتطبيق الضوابط، ولكن خلال الحديث معه يذكر فترة تتراوح ما بين السنة ونصف السنة والسنتين، «نكون خلالها قد بدأنا عملية التحول إلى الاقتصاد المُنتج، ومن بعدها يتمّ تخفيض حدّة الضوابط». بعد انتهاء المرحلة الأولى، «يأتي دور إعادة هيكلة وجدولة الدين العام. فكبار المودعين استفادوا من الفوائد المرتفعة، وكانوا يعرفون المخاطر الناتجة من هذا الأمر، ورغم ذلك قرّروا المغامرة بإيداع أموالهم في لبنان»، لذلك من المنطقي بالنسبة إلى الضاهر مشاركة هؤلاء في كلفة الحلّ. ما يقترحه النائب الزحلاوي، يمكن وصفه بـ«الجريء». فهو يعاكس كل التنظيرات «التاريخية» عن الاقتصاد اللبناني الحر، علماً بأن فرض «كابيتال كونترول» يتم عادة في دول تتبنى الاقتصاد الحر، لكنها تضطر إليه في زمن الأزمات، خشية هروب الرساميل منها. ويُلاقي هذا الاقتراح، نوعاً ما، الطرح الذي تقدّم به وزير الاقتصاد منصور بطيش (الاثنان ينتميان إلى «تكتل لبنان القوي») لاستعادة مليارات الهندسات المالية مع الفوائد، من أصحاب المصارف وكبار المودعين.
بعد انتهاء المرحلة الأولى، يأتي دور إعادة هيكلة الدين العام لشطب نحو 50 مليار دولار منه


يشرح الضاهر أنّ اقتراحه، في حال إقراره، «يُساهم في خفض أسعار الفائدة، لتُصبح قرابة 3% تقريباً على الدولار للمودع، و6 أو 7% للمُقترض، فيبقى المصرف قادراً على المحافظة على هامش ربح مُعيّن». هذا الأمر يُساعد «على إعطاء قوة دفع للاقتصاد. ثمّ نعمل على تحسين هيكلية الدولة. يوجد 50 مليار دولار تقريباً من الديون، يجب شطبها لننطلق من جديد». الشطب الذي يتحدث عنه الضاهر يشمل المصارف وكبار المودعين. وهو ينفي أن يكون قد نسّق الاقتراح مع حاكم المصرف المركزي أو جمعية المصارف. ولكن ألا تهدف أيضاً إلى حماية المصارف عبر هذا الإجراء؟ «هو لحماية الاقتصاد ككلّ. مجبورون أن نحمي القطاع المصرفي، لضمان حقوق المودعين فيه، ولكن ليس لحماية المساهمين فيه».
أما سياسياً، فلم يُنسّق الضاهر خطوته مع باقي الكُتل. يُدرك أنّ الأجدى حصول توافق سياسي حوله لتأمين إمراره، لكنّه يُقدّم اقتراح القانون بصفة فردية، من دون معارضة تكتل لبنان القوي له. المعارضة على «الكابيتال كونترول» تأتي بشكل واضح من رئيس مجلس النواب نبيه برّي. فقد نقل «زواره» أمس عنه أنّه «رفض أي شكل من أشكال الكابيتال كونترول». ولكن يبدو أنّ الضوابط على المال باتت تجد «جمهوراً» لها، إذ أعلن وزير العمل المستقيل كميل أبو سليمان أنّ «أول خطوة يجب القيام بها هي الكابيتال كونترول. يجب أن يتمّ تنظيم ذلك إما من مجلس النواب أو مجلس الوزراء أو مصرف لبنان. الأكيد أنّه منذ 17 تشرين الأول، هناك أموال أُخرجت من لبنان. هناك استنسابية وإجحاف بحق صغار المودعين... كذلك كيف يُمكن لمن يريد إدخال أموال جديدة أن يضمن إخراجها؟ لذا المطلوب خلق إطار قانوني لفترة مؤقتة لخلق الثقة عند الناس».