ليست نسويّة تقليديّة. لا تروقها تلك الصورة النمطيّة. أكثر مِن ذلك، سلوك «النسويّة السطحيّة» يستفزّها، لكن، في مطلق الأحوال، ليس ذلك همّها الآن... «الآن للعمّال، للكادحين، للفقراء والمسحوقين، لتأجيج الحقد الطبقي، للنساء والرجال، لكلّ ذلك وأكثر أنا ورفاقي هنا». في ساحة رياض الصلح، التقيناها ليل أمس، واسمها كارين هلال. بالكاد نسمع صوتها، المبحوح مِن الهتاف، وعلى وقع الأهازيج حولنا. تلك هي الفتاة التي اقتحمت، مع رفاقها، مقرّ جمعيّة المصارف في وسط بيروت يوم الجمعة الماضي. كانت نجمة المشهد. أربعة شبّان وفتاة. كم واحد قال علناً، أو في سرّه، انظروا «معهم بنت». ابنة الـ 22 عاماً، الممتلئة أملاً، والغضب مِن قبل الأمل وبعده، حريصة على كسر، في جملة ما تود تكسيره، تلك الصورة النمطيّة الأخرى عن «البنت اللبنانيّة». تعلم جيّداً كيف ينظر بعض الخارج إلى اللبنانيّات، وتعلم، أيضاً، كيف «روّج الإعلام لتلك الصورة». تنضم كارين اليوم إلى ملك علويّة، صاحبة ركلة «الكونغ فو» الشهيرة، التي أصابت بها «حضن» مرافق الوزير أكرم شهيّب مطلع الانتفاضة.قبل أربعة أشهر، تركت كارين عملها في مطعم «كبابجي». لا، صُرِفت مِن عملها. دُفِعت دفعاً، بمحاولة إذلال، لجعلها تترك. كانت تركت جامعتها سابقاً نتيجة حاجتها للعمل. لِمَ صُرِفت؟ ممنوع على العمّال في المطعم، الذي يُشارك رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة في أسهمه، أن يحملوا معهم هواتفهم. كانت عقوبتها حسم 5 أيّام عمل منها. فعلوا ذلك مع 7 عمّال آخرين، انتفضت باسمها وباسمهم، لم تسكت، خاصّة بعدما رأتهم وقّعوا على أوراق مكتوبة بالإنكليزيّة. تعرف أنّهم لا يجيدون تلك اللغة. لا يزال ما حصل معها هناك غصّة في قلبها. لا يولد الحقد الطبقي مِن فراغ. تلك المفردة التي لا تنفّك كارين تردّدها. هكذا، المسألة أبعد مِن مجرّد إسقاط سلطة سياسيّة، أبعد مِن استقالة حكومة، ومثل كارين الآلاف في الشارع وخارجه، يحقدون على «السيستم» الذي يسوّر حياتهم. آلاف الشبّان في الطرقات، وخارجها، يحقدون على الموت الذي يُقدّم إليهم على شكل حياة، وظيفة، عبوديّة مقنّعة. في شوارع لبنان ما هو أعمق مِن «معارضة سياسيّة» بالمعنى التقليدي. تعرف الفتاة أنّها في بلاد لا تنفع فيها الشكوى أمام القضاء، ضدّ مؤسسة نافذة، وأنّها خاسرة بحكم المؤكّد... هذا إن قُبلت مِنها في الأصل شكلاً.
كارين، ابنة قرية عرب الجلّ الجنوبيّة، قضاء صيدا، ماركسيّة لأنّها بذلك «عثرت» على نفسها. ثوريّة، مع العنف الثوري، تقول، رغم ما ينضح مِنها مِن «قفشات» طفوليّة. تعيش مع والديها في بيروت، بالإيجار، وما الإيجار في بلادنا إلا قتل على البطيء؟ ضربت، مع رفاقها، جمعيّة المصارف «لأنّها ترمز إلى ثقل رأس المال في لبنان». بوضوح، لا بقناع «جوكر» أو سواه، تقول: «عليهم أن يعرفوا أنّنا لسنا مِن جماعة السلميّة فقط، لا نعارض السلميين طبعاً، وها نحن نشاركهم، ولكن أيضاً نحن حاضرون لأن نصدم السُلطة كما نُصدم مِنها كلّ يوم. عليهم أن يعلموا أنّنا لسنا جهلة، نحن قرأنا ونقرأ، لسنا هنا لنقضي وقتاً مسليّاً وحسب. عليهم أن يخافوا مِنّا». ليست روزا لوكسمبورغ، طبعاً، لكن أيّ وعي طبقي كان ينشده المنظّرون أكثر مِن ذلك؟ هي ليست أكثر أعضاء «الحركة الشبابيّة للتغيير» ثقافة، لكنّها، وهذا ما يشهد الآخرون لها به، مِن أكثر المندفعين الصادقين المستعدّين للتضحية. كانت حاضرة لتموت، في «السطو» الأخير، تقولها وهي في كامل وعيها. كانت تعرف أنّ هذا يمكن أن يحصل، وأقدمت، وهي التي لم تعلم بأمر الخطّة إلا صبيحة اليوم نفسه. هل أنتِ جاهزة؟ نعم، قالت، هرولت ملتحقة.
والدها غير حزبي، كان في السابق فتحاويّاً، اليوم موظّف في المرفأ. الاستشهاديّة سناء محيدلي ابنة خاله. والدتها تشاركها الحضور، يوميّاً، في ساحة الاعتصام وسط بيروت. والد الوالدة كان شيوعيّاً. انفجر وعي الفتاة، طبقيّاً، قبل نحو أربع سنوات مع تكدّس النفايات في شوارع بيروت. لم يعلم كثيرون كم كانت تلك اللحظة مفتاحيّة في تاريخ هذه البلاد. لو يعلمون أنّ هناك مَن انتحر، إثر الإحباط والخروج بلا نتيجة، وأنّ هناك مع هاجر ويعيش اليوم بشكل «غير شرعي» في أوروبا، وأنّ هناك مَن أدمن الكحول وأنّ وأنّ... وكلّهم دون الثلاثين. تعرفهم كارين، ونعرفهم. ترمق تمثال رياض الصلح، ثم تقول: «الثورة على مناهج التاريخ في مدارسنا أيضاً. كلّه كذب. قرأنا وعرفنا أنّ كلّه كذب». تُخبرنا فجأة أن صوتها جميل، وأنّها، لولا البحّة، لكانت أسمعتنا أغنيّة جميلة. تبتسم. هاتفها جنبها شبه مهشّم. كيف لأحد أن يؤذي مثل هؤلاء؟ هذه الـ«كيف» ليست مِن النوع الذي ينتظر إجابة. نعرف كيف. وهي تعرف، أو ها هي بدأت تعرف، بدأت تعي. بعض المظاهر القائمة في الساحات، خاصّة في ساحة الشهداء، لا تروق لها، تقول: «خطرلي روح لعندهم وقلهم بكفّي خلص. كفّوا عن الخفّة، لكن في النهاية هذا حقّهم. هنا نحن في ساحة رياض الصلح، هنا الأصل، هنا الروح، انظر نحن في مواجهة السراي الحكومي. عموماً هذه ليس وقت الخلافات».
يؤلمها ما حصل في الساحة أخيراً. يوم أتى مَن اعتدى. ابنة الـ22 عاماً تخبرنا الآتي، كأنّها تُريد أن تقفز فوق ما جرى، هكذا بلا مقدّمات: «أعرف أنّ السيّد حسن نصرالله مُهدّد بسلاح المقاومة. كثيرون يُريدون أن ينقضوا عليه وربّما الحزب شعر بخشية ما. أنا شخصيّاً ورفاقي مع المقاومة حتّى الموت. يلي ضربونا بالمرّة الثانية جوعانين أكثر منا، صدّق بعضهم سرق طعام مِن الخيم. في النهاية هؤلاء مسؤوليتنا، أهلنا وناسنا». لا بدّ لكارين أن تعتلي منبراً وتتكلّم. لدى هذه الفتاة ما تقوله. لدى رفاقها كذلك. هذا صوت عميق يخرج مِن وسط بيروت. ليسوا قلّة هناك.
كارين ستعود إلى جامعتها يوماً. تُريد ذلك. لا تعلم كثيراً عن الغد. تجيد الإنكليزيّة والفرنسيّة، ونعم «هلق شكلي مبهدل ولبسي هيك، بعرف كون غير هيك، بس هلق مش وقتها. هلق وقت التعب والعرق والشارع. وعن البنات؟ مجتمعنا مليان بنات ثوريّات، بس عم ينظلموا إعلاميّاً، ما حدا بضوّي علين. ما تخلوا حدا يكسر طموحكن، كونوا قوايا، انتوا والرجال كونوا إيد وحدة». كارين تطلب أن نُرسل إليها الصور التي التقطناها لها. تُريد أن ترى نفسها كيف بدت. تلك الطفلة الكبيرة، التي لا تعلم شيئاً عن الغد، سنبحث عنها عندما ينتهي كلّ شيء، ونعطيها صورها... صور واحدة مِن أجمل ما أظهرته أيّام الانتفاضة.