يتصرّف سعد الحريري، منذ استقالته، كما لو أنّه واحدٌ من «ثوّار 17 تشرين الأول». يريد من اللبنانيين أن يتناسوا أنّه ملتزم بالنموذج الاقتصادي الذي وُضعت أُسسه عام 1992، وأوصل البلاد إلى حالة الانهيار الحالية، وأنّه شريك التيار الوطني الحرّ في التسوية الرئاسية والحُكم، وأنّه رئيس الحكومة التي انتهجت سياسة التقشّف، وسعت إلى فرض المزيد من الضرائب على الفقراء والاستدانة أكثر وزيادة الفوائد على الدين العام، وأن بعض الوزارات المحسوبة عليه، وتحديداً الاتصالات، «ارتبكت» ما أدى إلى اندلاع الانتفاضة. فجأةً، بدأ التسويق أنّ الحريري لا ينتمي إلى «منظومة الفساد الحاكمة»، بل هو رجلٌ «مغلوب على أمره»، وقد جرت «مُصادرة صلاحياته» من قِبل التيار العوني. حتّى في عزّ الاعتراض الشعبي، لم يكن غضب أكثرية الناس موجّهاً ضدّ رئيس السلطة التنفيذية، بل بدا أنّ ثمة توجّهاً لتحييده. ومع استقالة الحكومة، لم تفرح الأغلبية بسقوطها، أكثر من الاحتفال بسقوط الوزير جبران باسيل. عملياً، خرج الحريري من الوحل من دون أن يتّسخ، فكانت الفرصة المناسبة ليُحوّل «الشارع» إلى مكسبٍ له، يلمّع من خلاله صورته، فيتمكن من العودة رئيساً لأي حكومة، أكانت سياسية أم انتقالية أم تكنوقراطاً. «التكنوقراط» في أدبيات تيار المستقبل، يأتون على شاكلة فؤاد السنيورة ورياض سلامة ومحمد شقير.
ترفض المجموعات والأحزاب عودة أيّ شخص من «الطقم السياسي» (هيثم الموسوي)

هيمنة برنامج تيار المستقبل السياسي على الشارع، بعد استقالة الحريري، والتقاطه مفتاح إقفال الطرقات في المناطق التي تضمّ مؤيدين له، باتت واقعاً. ومنذ يومين، بدأت ترتفع في «ساحات النضال» أصواتٌ تفصل بين الـ«كلّن» وبين سعد الحريري. المجموعات المدنية والسياسية المُعارضة، تعتبر أنّ الأمر محصور «في أفرادٍ مُنظمين، أكان من تيار المستقبل أم جهات أمنية، دُفعوا للقيام بذلك، ولكنّهم لا يُمثلون الثورة». إلا أنّ البعض يُحمّل هذه المجموعات مسؤولية تحييد الحريري عن المعركة، من خلال «حرفها الانتفاضة عن أهدافها الاقتصادية والاجتماعية الحقيقية»، مُقابل «مُباركتها» ومساهمتها في تسويق الشتائم للعهد وباسيل ونبيه برّي، حصراً. الردّ الجماعي يأتي بأنّ «ولا أحد منّا كان قادراً على التحكّم بالشارع. هناك عوامل عدّة أدّت إلى تصويب الخطاب باتجاه مُعيّن، أبرزها تباهي التيار طيلة الأشهر الماضية بأنّ هذه حكومة العهد الأولى، بالإضافة إلى خطاب التيار الطائفي، لا سيّما بعد موجة الحرائق».
المسوّدات أمام مجموعات الحَراك، للفترة المقبلة، تضمّ سيناريوهات عدّة لردّة الفعل المُفترض أن تُقابِل بها تشكيل الحكومة الجديدة، بناءً على تركيبتها. احتمال عودة الحريري إلى رئاستها، واردة جدّاً، لا سيّما مع وجود توجّه لدى مختلف القوى السياسية «للتفاوض معه». فماذا سيكون موقف المجموعات والأحزاب المُعارضة؟ بالنسبة إلى الحزب الشيوعي، «نحن ضدّ عودة أي شخص من الطقم السياسي الذي أثبت فشله وأوصلنا إلى حافة الانهيار». ويُشير مسؤول العلاقات السياسية في «الشيوعي»، حسن خليل إلى أنّه منذ اليوم الأول «أطلقنا مبادرة قائمة على أربع نقاط، منها تكليف حكومة انتقالية وطنية، بمعنى أنّها خارج المنظومة الحاكمة، تعمل على إقرار قانون انتخابي جديد قائم على إلغاء القيد الطائفي، واستعادة المال العام المنهوب». لا يتحمّس «الشيوعي» كثيراً لحكومة تكنوقراط، «نريد حكومة انتقالية لفترة ستة أشهر تكون لها مَهمة واضحة، ولا مشكلة إن كانت سياسية». وفي الإطار العام نفسه، يتحدّث مفوض العلاقات السياسية في حركة «مواطنون ومواطنات في دولة»، معن الأمين، عن «حكومة انتقالية مع صلاحيات تشريعية، مُشكَّلة من أشخاص يملكون المعرفة بالأزمات المالية والسياسية للمعالجة، والجرأة لتوزيع الخسائر في الفترة المقبلة بأسلوب عادل وهادف، وأحرار من دون ارتباطات خارجية وداخلية». هذه الشروط، لا يعتقد الأمين أنّها «تنطبق على أي واحد من زعماء الطوائف».
ستعود المجموعات إلى الشارع في حال إعادة تكليف الحريري


ثمّة عمل جدّي لتصوير الحريري كـ«بطلٍ قومي» استجاب لمطالب شعبه. «أبداً ليس كذلك، وهو جزء من المنظومة، لديه كتلة نيابية وازنة موجودة في الحكم منذ أيام رفيق الحريري، وهم الذين أنتجوا السياسات المالية الموجودة اليوم»، بحسب العضو في تحالف "وطني"، دارين دندشلي، الذي اتفق مع مجموعات أخرى على معايير لشكل الحكومة المقبلة، ورئيسها، وهي أن تضم أفراداً مُتخصّصين ومن خارج الأحزاب، مع الفصل بين النيابة والوزارة. «وطني» لن يُساوم على محاولة إعادة الحريري تعويم نفسه، تماماً كموقف «لِحقي». يقول عضو هيئة التواصل في الشؤون العامة علاء الصايغ، إنّ «رفض عودة الحريري رئيساً للحكومة، قاطع. ما بتقطع مع الناس»، خاصة في وجود إدراك أنّ «عودته ستؤدي أيضاً إلى عودة وجوه سياسية أخرى لحصول توازن، فهكذا يعمل نظام المحاصصة لدينا، والمعترضون لن يقبلوا بذلك».
اللغة «الجازمة» التي تتحدّث بها الأحزاب والمجموعات المذكورة، تتحول إلى «ليونة» لدى مجموعات أخرى. يقول زياد عبس (Re - Lebanon) إنّ التعاطف مع الحريري غير موجود لدى المجموعات الناشطة، ولكن «أصحاب الواقعية السياسية يعتبرون أنّه إذا فرضت التوازنات عودة الحريري إلى رئاسة الحكومة وشكّل حكومة إنقاذ، كان أكثرية الوزراء فيها مستقلين، مع بقاء الوزارات السيادية في يد الأحزاب، قد لا يُمانعون ذلك». يوضح عبس أنّه «لا نريد عودة الحريري، ولدينا مُرشح نُحاول التسويق له، ولكن هوية رئيس حكومة الإنقاذ، لن تكون مهمة طالما أنّها لديها صلاحيات مُحددة، والأكثرية داخلها مستقلون، مع برنامج عمل واضح». على المستوى الشخصي، ليس العميد المتقاعد جورج نادر (حراك العسكريين المتقاعدين) بعيداً عن الرأي غير المُعارض لإعادة تكليف الحريري، إذا ما فرضته «الأكثرية في الاستشارات المٌلزمة، فنحن متفقون أنّ التغيير يتمّ وفق الآلية الدستورية». فضلاً عن أنّ إعادة تكليفه قد تأتي على صيغة «تسوية لإرضاء الشارع الذي تتم محاولة استغلاله وجرّه إلى نزعة مذهبية. فتجب حماية الثورة». إلا أنّ حراك العسكريين المتقاعدين و«هيئة تنسيق الثورة»، يُفضلان تكليف شخص «ينتمي إلى نادي القضاة، غير تابع لأي حزب»، يقول نادر.
ماذا إذا أُعيد تكليف سعد الحريري؟ الجواب يأتي موحّداً: «العودة إلى الشارع والاعتراض».