عند الجسر الذي يفصل الخندق الغميق عن وسط البلد، توقف عدد من المُتظاهرين أمس، ممن لبّوا دعوة «تجمّع المهنيين والمهنيات» إلى التظاهر الحاشد للضغط من أجل تشكيل حكومة مدنية انتقالية، هاتفين: «يا شباب الخندق، كلنا بذات الخندق». هؤلاء الذين انطلقوا، كما باقي زملائهم، من أمام مصرف لبنان باتجاه ساحة الشهداء، تعمّدوا التوقف عند جسر «الرينغ» لترداد شعارهم الموجّه إلى شُبّان اعتدوا عليهم قبل أيام بالضرب والترويع وقيل إنّهم من سُكّان المنطقة، داعين إياهم إلى الاحتضان والتركيز على الصراع الطبقي ضدّ السلطة، ما يجعل الطرفين في موقعٍ واحد.وينسجم هذا المشهد وخلفية الدعوة إلى التظاهرة/ المسيرة، والتي تتمثّل بالتنديد بـ«اجتياح ساحتَي رياض الصلح والشهداء من قبل ميليشيات السلطة من أجل ترهيب الانتفاضة وإجبار الناس على إخلاء الساحات»، وإدانة «تقاعس القوى الأمنية عن حماية المواطنات والمواطنين»، فضلاً عن استعادة الساحات كوسيلة للضغط من أجل تحقيق المطالب التي تتمثل بتشكيل حكومة انتقالية تتخذ إجراءات فورية لحماية المُجتمع من المخاطر الاقتصادية التي تتهدده.
الانطلاقة أمام مصرف لبنان كانت لها «رمزيتها»، وفق عدد من المُشاركين، وتتمثّل بأهمية التصويب على «مكمن الخلل المتمثّل في سياسات حاكم مصرف لبنان وتورّطه في الفساد ونهب الأموال العامة». فكانت شعارات «يسقط حكم المصرف» و«الضريبة على الأرباح مش على العامل والفلّاح»، وأخرى تطالب بتعديل السياسات الاقتصادية.
التجمّع الذي يضمّ تجمعات من مُستقلّين من مهن مختلفة (الطب، الصيدلة، طب الأسنان، الهندسة، المحاماة، العمل الاجتماعي، أساتذة الجامعات، صحافة، اقتصاد وسينما)، نجح في استقطاب الآلاف، وأعاد الزخم للساحات، من بوابة المُستقلين في المهن، الطامحين بدورهم إلى إعادة تكوين الجسم النقابي المفقود في لبنان. ولفت أحد الأساتذة الجامعيين المُشاركين في التظاهرة الى أن النقابات هي المُحرّك الأساسي للإصلاحات وهي المجال الذي يلتقي فيه أصحاب المهن المشتركة خارج عباءاتهم الحزبية، «لذلك عمدت السلطة الى السيطرة على النقابات وتقويضها». وأكد أنّ أهمية التحركّات تحت شعار المهنيين ومطلب إعادة الجسم النقابي تكمن بأنه «يقطع الطريق أمام أي محاولات للتشكيك في نوايا المنضوين في التحرك ونبذ محاولات التسلّق على حركة بهذه الأهمية». إذ إن تحديد إطار للتحركات وتوضيح الجهات الداعية يحولان دون إمكانيّة التخويف من الشارع الذي سيصبح له حكماً وجه واضح وينقذه من الصراعات الطائفية والحزبية ويحصره بالصراع الطبقي.
تحديد إطار للتحركّات وتوضيح الجهات الداعية يحولان دون إمكانيّة التخويف من الشارع


الجدير ذكره أن عدداً من أساتذة الجامعة اللبنانية والجامعات الخاصة شكّلوا منذ البداية «نواة» هذا التجمع الذي اتسع ليضمّ المهنيين. وكان لافتاً مشاركة عدد من طلاب الجامعة اللبنانية وبعض الأساتذة المُستقلين الذين رفعوا مطلب دعم الجامعة الوطنية.
الكلام عن مجابهة التخويف من الشارع عبر تحديد الإطار ينسجم وشهادات عدد من المتظاهرين الطلاب الذين أبدوا ارتياحهم «للتنظيم الذي ترسيه تحركات مماثلة، ولوضوح الشعارات والمطالب التي لا تختلف عن الشعارات التي رفعت بداية الثورة». والأهم، برأي هؤلاء، هو أن مثل هذه التحركات إذا بقيت على الزخم نفسه بقيادة مستقلين يطالبون باسترداد العمل النقابي فقد تؤسّس لإنشاء هيئة لتُفاوض باسم الناس، طالما أن المطالب باتت «بديهية»، بالنسبة إليهم.
من جهته، رأى المحامي نزار صاغية أن هذا الحراك، مهما كانت طبيعة الحكومة التي ستتألف في ما بعد، «ستنبثق عنه حكماً بنى اجتماعية متينة من شأنها أن تحمي الفئات الاجتماعية من أي سلطة فاسدة ومُستقلة»، لافتاً إلى أن هذا الوعي بين المُستقلين في مختلف القطاعات هو «إرث حراك 2015، وبما أن هذه التحركات أقوى بكثير مما حصل قبل أربع سنوات، سيكون الإرث أمتن». واعتبر المهندس فراس القاضي أن هذه الهبّة الشعبية من شأنها أن «تنشئ تحركات مستقلة داخل كل نقابة لمواجهة النموذج المعمم على النقابات، حيث تأتي الأحزاب بممثلين عنها ضمن زبائنية سياسية تطبِق على العمل النقابي وتُقيّد دوره المطلوب في خدمة أصحاب المهن والمُستفيدين منها».
ولم يغب الجسم الصحافي عن تحرّكات أمس، إذ سعى عدد من الصحافيات المُستقلات إلى حشد اكبر عدد من الصحافيين «نظراً إلى أهمية المهمة الملقاة على عاتقهم في ظروف استثنائية كالتي نمرّ بها»، وفق الصحافية سعدى علوه، مُشيرةً إلى أنه «لو شارك الصحافيون العاطلون عن العمل والمطرودون تعسفاً لكان حشدهم ملأ المسافة الفاصلة بين مصرف لبنان وساحة الشهداء».