الواقعية أفضل السبل لمعالجة أي مشكلة. والواقعية، هنا، ليست دعوة إلى فقدان الحس ولا إرادة التغيير، بل لفهم عناصر الأزمة القائمة، ودرس موازين القوى الموجودة، والبحث في آليات العمل لتحقيق ما يريده هذا الطرف أو ذاك.الانقسام السياسي القائم حول الحراك وقيادته وبرامجه ونتائجه انقسام حقيقي، سواء عُبّر عن ذلك في الشارع أم لا. ومن لا ينتبه الى حجم المشاركة العامة في النقاش حول تفاصيل الحراك، لا يمكنه التعامل مع الوقائع الجديدة. وأخطر الأمور لا أن يحبط المتظاهرون فحسب، بل أن يلقوا بالمسؤولية على خصومهم، وكأنهم أنجزوا كل ما يقدرون عليه. لذلك، على من يريد مصلحة الحراك والبلاد التصرف بواقعية مع وقائعنا الآن.
لنحسم سريعاً قراءة واقع السلطة. هنا، لا توجد مؤشرات جدية على نية أركان السلطة التنازل ابتداءً، أي من تلقاء أنفسهم. هم لن يتراجعوا إلا تحت الضغط. وكلما شعروا بأن الضغط ناجم عن ناس، لا عن جهات سياسية، اقتربوا أكثر من الحلول. وكلما شعروا بأن القوى السياسية الشريكة لهم في السلطة هي من يقبض على الأمر، تريّثوا وثبتوا على مواقفهم، وبالتالي تكون النتيجة مزيداً من قهر الناس. بالتالي، فإن أركان السلطة اليوم ليسوا في وضع يمكن الرهان فيه على أخلاقياتهم لتحقيق تقدم. بل يمكن فهم أن الضغط عليهم يقوى بقدر ما يبتعد الحراك عن قوى متورطة في السلطة تحاول اليوم تعزيز مكاسبها أو كسر خصومها. وفي مقدم هؤلاء، القوات اللبنانية والحزب الاشتراكي وبقايا 14 آذار. وكل محاولة من حراكيين لتقليل أهمية هؤلاء، لا تمثل إلا سذاجة أو مكابرة، علماً بأن الفاعلين في الحراك - متى تنظّموا - قادرون على منع هذه القوى من استغلالهم أو النطق باسمهم، وصولاً الى إخراجهم من الشارع ودفعهم الى الركون حيث تقف قوى السلطة نفسها.
الواقعية تقول إن السلطة لا تبني حساباتها اليوم على أساس ما يجري في الشارع فقط، بل وفق ما تراه من خلف الستارة. وهذا قد لا يهم الناس في الشارع، لكنه أمر حقيقي وليس مفتعلاً من الخصوم، وحقيقته نابعة من الحماسة غير المقنعة لقوى وشخصيات وشركات ووسائل إعلام لدعم الحراك وإدارة بعض تفاصيله، علماً بأنها قوى ليست صاحبة مصلحة في الإصلاح الكامل، لأنها مستفيدة، بأشكال مختلفة، من واقع السلطة اليوم. وهو حال وسائل الإعلام (بالمناسبة، من المفيد لإدارة قناة «الجديد» إطلاع الناس على واقع القروض المالية التي تخصّ القناة نفسها، أو تخص أصحابها، ولا سيما القروض التي أُخذت تحت عنوان دعم الإنتاج الوطني برعاية ودعم مصرف لبنان وحاكمه رياض سلامة، إضافة الى ملفات النزاع حول العمل في قطاعات الكهرباء في لبنان، وعلاقة عقود العمل الخاصة بهم في العراق وسوريا وليبيا بالنزاع السياسي لإدارة المحطة مع قوى في البلاد، وهذا توضيح ضروري بدل التلهّي ببيانات وعبارات لا تنفع حتى في مقدمة إخبارية).
لنعد الى الواقعية المتصلة بما يجري. إذا كانت السلطة غير مؤهلة الآن للقيام بخطوة نوعية، فإن النقاش المجدي والفعال والأصدق هو مع المعنيين، من الحراك نفسه، والصادقين من ناشطيه وناسه.
الأيام الأولى للحراك لم يكن ممكناً أن تضج إلا بالفقراء الذين لا يملكون غير أصواتهم للتعبير عن غضبهم وضيقهم من إجراءات الحكومة. لكن مرور أيام قليلة على حراك صمد واستمر، ومن دون عنف حقيقي مقابل، شجّع آخرين من فئات اجتماعية أخرى على التقدم صوب الشارع. وفي غضون أسبوع، ملأت الجمعيات والمنظمات والقوى الساحات بحشد من «المؤثرين» الذين انتشروا الى جانب المواطنين ممن ليسوا بحاجة إلى من يدعوهم الى النزول. لكن اللافت، هو أن الحشد جذب لاحقاً فئة جديدة من الناس، وهم أفراد من طبقات اجتماعية غير مقهورة. واستمر تعاظم حضور هؤلاء، مع تراجع حضور المعدمين الذي تأثروا بعناصر عديدة، منها خطب الأمين العام لحزب الله، أو بضغوط أهلية واجتماعية وجهوية، وبعضهم تأثر بأشكال مختلفة من الترهيب. لكن هذه الكتلة هاجت وماجت ربطاً بآليات التعبير في الشارع، من طريقة تعامل الميديا والمنابر المفتوحة، الى الطابع الاحتفالي الذي ساد الساحات.
يجب التوضيح أن هذه المشاركات طبيعية ومنطقية وعادية. ويجب على الناطقين باسم المقهورين إدراك أن الاحتجاج يشمل الأغنياء أيضاً، ليس لنقص في الرواتب، بل لشعورهم القوي بأن الدولة منهارة، وأنهم يبحثون عن استقرار عام، سياسي وأمني وقضائي وحقوقي ومصلحي. وهؤلاء، كما غيرهم، من المنضوين إلى طبقات وسطى، لهم مصلحة في مكافحة دولة الفساد والرشوة والابتزاز والمحسوبيات، إضافة الى المشاكل البيئية والصحية والتربوية. وبين المتظاهرين المحتجين، فئات جرى تهميشها عنوة من خلال قوانين الانتخابات القطاعية، لأن قوى السلطة الإقصائية والاستحواذية لم تترك مجالاً إلا وطالته أيديها السوداء، من البلديات الى المحافظات الى نقابات المهن الحرة الى المؤسسات العامة والاندية والجمعيات الاهلية. وبين الذين تعرضوا للإقصاء من وجد فرصته في الحراك.
بناءً على هذه التشكيلة الواسعة، قام الحراك بعمل كبير يستهدف تغييرات كبيرة في الدولة. لكن الذي لا يمكن تجاوزه هو الدور الإضافي الذي لعبته قوى سياسية هي من صلب السلطة، وشخصيات سياسية واجتماعية ونقابية وإعلامية هي جزء من المنظومة الحاكمة في البلاد. هنا، كان يفترض بمن يقول إن الحراك له ويمثله، المبادرة الى محاصرة تأثير هؤلاء، والعمل على منع تمددهم بين الجموع، والحد من أدوات العمل المباشرة أو غير المباشرة لهم بين الناس.
ألا نعرف، مثلنا مثل المشاركين في الحراك، أن فكرة قطع الطرقات بالعوائق، وأن يتم ذلك صباحاً فقط من قبل «شباب»، ثم قرار إقفال الطرقات بالسيارات والحشود لاحقاً، هي فكرة لم تتداول بها أي من المجموعات الأكثر نشاطاً في الحراك، وأن فريقا منظّماً تولى تنفيذها (القوات اللبنانية شمال بيروت، والحزب الاشتراكي على الطريقين الساحلي والجبلي)؟ ثم لماذا الإصرار على هذه الخطوة في هذه اللحظة، علماً بأن السلطة هي من يعمد عادة الى قطع الطرقات لمنع وصول الناس الى الساحات، فلماذا تلجأ المعارضة الى هذه الخطوة، وهي عملياً تعيق وصول الناس الى الساحات... أم هناك من بدأ يشعر بالقلق من تراجع الحماسة للنزول الى الساحات؟
يتحمل كثيرون من الناشطين في الحراك الحقيقي المسؤولية عن حماية حركتهم ومنع اللصوص من العمل براحة بينهم


إذا كانت منطقية مشاركة كل لبناني مستاء من الدولة في الحراك، فإن من المنطقي القبول برأيه خارج المشترَك من المَطالب. وهذا يعني أن من يقبل بأصوات تعتقد أن المشكلة سياسية بالاساس، وأن حزب الله هو من يقف خلف هذه المشكلة (لنفترض أنه حر برأيه وليس من المرتزقة)، هل من المنطقي ألا يقبل رأي آخرين، يرفضون وجوداً مباشراً أو غير مباشر لكل القوى التي شكلت 14 آذار، أو من المنظمات غير الحكومية التي «يصادف» أن كل مواقفها ضد حزب الله حصراً؟ وليس بين هؤلاء من هو متضرر من ضيق حذائه على قدمه أو تراجع دخله أو بطالته. وهؤلاء يرفضون التصريح عن مصادر دخلهم، كما يرفضون إبلاغنا بنتائج عملهم على مدى عشر سنوات، أو الاسباب التي تجعلهم اليوم مجتمعين في منظمة ثم يتوزعون غداً على مجموعات أكبر، ثم لا نعرف أين يختفون؟
بهذا المعنى، يتحمل كثيرون من الناشطين في الحراك الحقيقي المسؤولية عن حماية حركتهم، ومنع اللصوص من العمل براحة بينهم. وإذا كانت غالبية هؤلاء لا تريد للسياسة الخلافية مكاناً، فليس منطقياً السماح لهذه المجموعات بالتحرك بصورة عادية. ثم كيف يمكن فهم أن أكثر من 250 ناشطاً من قوى الحراك الحقيقي، لم يكن بمقدورهم انتزاع ميكروفوناً واحداً من جيوش المراسلين والتحدث عن حقيقة الازمة التي يواجهها لبنان والتي تستوجب التحرك؟ وكيف لم يكن بالامكان إقناع ألف شخص بالتوجه الى مقار جهات رسمية وسياسية واقتصادية ومالية ودينية تخص مواقع وأشخاصاً من نادي المسؤولين عن قهر الناس؟ هل صارت جلسة رياضة يوغا على جسر الرينغ أجدى للحراك من الاحتجاج أمام المصرف المركزي؟
أمر أخير يخصّ الحراك وقواه الرئيسية، من الشيوعيين المنقسمين على أنفسهم رغم كل مصائبهم، الى متقاعدي اليسار المنتشرين على شاشات افتراضية ومع جمهور افتراضي، الى أحرار ينظرون بقلق الى مستقبل لبنان لكنهم لا يجدون حلاً غير تولّيهم هم مقاعد السلطة: هلّا وقفتم للحظة واحدة أمام المسؤولية التاريخية في حماية الحراك من نفسه؟ هل صحيح أن العجز كبير الى حدود عدم القدرة على إنتاج ورقة أهداف وليس هيئة ناطقة؟ هل العجز كبير الى حدود أن الضياع هو المسيطر على المشهد، وأن السؤال الأكبر السائد منذ أمس هو: هلأ لوين؟

غدا: عن إذلال المعارضين جنوباً