منذ الأيام الأولى للحراك الشعبي، بدأت تتبدّى تصريحات ومحاولات زجّ اسم «حزب الله» فيها. بدأت المحاولات خجولة، وتطورت مع الأيام، بمساندة أدواتها، سيّما عبر استغلال شوارع ومناطق نُظمت فيها التظاهرات ومحسوبة على الثنائي الشيعي. الحراك الذي نزل إلى الشارع بالآلاف، تحت سقوف مطلبية وكتعبير عن قهر اجتماعي- اقتصادي موجِع، سرعان ما دسّ اسم الحزب بين ثناياه، ضمن أجندة واضحة في تحوير المشهدية من حراك/ سلطة إلى حراك/ حزب الله. المتابِع للإعلام الغربي، والخليجي على وجه التحديد، يدرك جيداً هذا التكتيك الذي عُمِل عليه في الليل والنهار، لا لتوريط الحزب، بل لاستهداف شخصية أمينه العام السيد حسن نصرالله، مع دفع ملايين الدولارات لتشويه صورته في الماضي. عدا الاستهداف السياسي للحزب، بدا جلياً هذه المرة التركيز على صورة نصرالله، ومحاولة تحطيمها، وكسر «هالتها»، خليجياً سيّما من الجهة السعودية/ الإماراتية، في وقت كانت قطر تتجاهل فيه الموضوع اللبناني إلى حين دخولها أخيراً المعترك، وانضمامها إلى غريمتها السعودية. يوم السبت الماضي، بثّت «العربية» نقلاً عن هُتاف التقطته في «رياض الصلح» يقول: «نصرالله واحد منن»، وراحت تستثمر فيه طيلة الأيام الماضية. «المتظاهرون يُسقطون هالة نصرالله»، كان عنوان التقرير الذي بُثّ في ذاك اليوم، وفيه تركيز على الهتافات التي «تمسّ هالة وقدسية نصرالله». التقرير أعاد نشر الفيديو الذي بثه «النادي العلماني» في «الجامعة الأميركية في بيروت» الذي يدعو نصرالله إلى الرحيل، وتضمن تضليلاً واضحاً عبر الادعاء بأن «مناصري الحزب» نزلوا بعد خطابه يوم الجمعة الماضي، واشتبكوا مع المتظاهرين وأحرقوا خيمهم. الشبكة السعودية، التي تضع نصب عينها التصويب على الحزب، ترى في هذا الحراك «قلقاً من قبل إيران» في ظل «ترنّح مشروعها التوسعي». منذ الأيام الأولى للحراك اللبناني، لم تتوانَ الشبكة على التحريض، واستضافة شخصيات سياسية تتلاءم مع أجندتها، كسامي الجميل وفؤاد السنيورة وأشرف ريفي. وعلى الوجهة الإماراتية وتحديداً «سكاي نيوز عربية»، كلام عن خوف «حزب الله» من الشارع ومحاولة «تخويفه»، واتهام له بجرّ البلاد إلى «حرب أهلية»، وتركيز على أن المتظاهرين «كسروا محرّمات في مناطق كانت تُعدّ معاقل حزب الله وتوجه انتقادات إلى الحزب».
(بافيل كوزينسكي ــ بولندا)

قد تبدو هذه الأجواء متوقّعة من تحريك لماكينات خليجية على وجه التحديد ضخمة تعمل في الليل والنهار، للهجوم على الحزب، واليوم تصبّ تركيزها على صورة نصرالله. على قناة «الحرة» أيضاً، السياق عينه، من خلال التركيز على «قدسية» نصرالله، وكسرها من خلال الحراك الشعبي، واتهام الحزب بأنه «راعٍ للفساد الذي تسبّب في الجوع والفقر».

لكن ما الذي نقل هذا الخطاب المسموم إلى الساحة اللبنانية؟ وكيف عُمل على توسيعه أكثر في الفضاء التلفزيوني، مع مساهمة واضحة من قبل أطراف تسلّقت الحراك الشعبي؟
فترة أسبوع فصلت بين خطابين لأمين عام «حزب الله». وبينهما بدا جلياً، اللعب على مضامين ما قاله، ومحاولة تسويق بروباغندا مضادّة تُمعن في الشرخ أكثر بين الحراك وبين الحزب، وبالتالي بين صفوف جمهوره. قد يكون الخطابان ليسا على قدر تطلعات وتوقعات الشارع اللبناني. لكن هذا الأمر أسهم في دخول بعض الناشطين والصحافيين الذين كانوا يشكلون خلايا فاعلة في السابق (على قلة عددهم) إبان الأزمة السورية، وأضحوا في السنوات الماضية، مجرد مجموعات هامشية هُزم مشروعها في الداخل السوري، ووجدوا اليوم فرصة مناسبة للثأر في خضم اتهام «حزب الله» بتحصين النظام الفاسد اللبناني.
تركيز على الجزء السلبي من خطاب نصرالله، أي ذاك الذي يتعلق بالمجموعات التي تحاول تسلّق الحراك

تغلغلت أكثر هذه الفئات، مستفيدة من الوضع القائم والغضب الشعبي، لتبثّ سمومها أكثر. ليس غريباً أن يخرج قبل أيام قليلة منشور فايسبوكي لأحد هؤلاء يقول فيه بالحرف «نصف الثورة هو نزع القداسة عن نصرالله، والتعامل معه بوصفه من لحم ودم، وليس من إلهام وغيب». وتلاقيه صحافية أخرى، من المجموعة عينها، في مقال نُشِر على الموقع المدار منها، وتخبرنا أن «أحد عناصر قوة الانتفاضة اللبنانية هو الجرأة وإسقاط كل الرموز ودوسها والانتفاض عليها. ونزع القداسة المزعومة عن نصرالله والتعامل معه بوصفه واحداً من السياسيين المسؤولين عن ارتهان البلد والعبث بمصير مواطنيه، أمر تحقق وبات واقعاً يستحيل الرجوع عنه».


في الخطاب الأخير لنصرالله، الذي أفرد مساحة واسعة للحديث عن إيجابيات الحراك، عُمل إعلامياً على إسقاط كل كلمة إيجابية قيلت في الخطاب خصوصاً في ما يتعلق بالحراك ومطالبه المحقّة. بدأت الخطوط تشتغل من خلال التركيز على الجزء السلبي من الخطاب، أي ما يتعلق بالتشكيك في المجموعات التي تحاول تسلّق الحراك وتتلقّى دعماً مالياً من السفارات. فكيف اشتغل بعض الإعلام المحلي، ومراكز السوشال ميديا هنا؟ كان واضحاً، استخدام أداة السخرية لتفريغ الخطاب من مضمونه. هكذا، انتشرت فيديوات ساخرة من قصة التمويل، وعُمل على تظهيرها كنوع من رد على كلام السيد وتسطيحه... إلى حين انتقالها إلى الميدان الشعبي، وفي حركة المراسلين/ ات. إذ تعمّدوا إقحام السؤال ـــــ عبر الطريقة الساخرة ـــــ للمحتجّين، ومحاولة الاستخفاف به، فيما طُمِس كلياً، الحديث عن دعم الحزب للحراك، والسياق الإيجابي له ولإنجازاته في هزّ السلطة إبان أيام قليلة.

بروباغندا مضادة، سرعان ما تمدّدت داخل خلايا بعض الإعلام المحلي. قد لا يُستثنى أحد من المحطات الرئيسية الثلاث التي لا تزال تغطي الحراك لساعات طويلة خلال النهار (mtv، «الجديد»، وlbci)، من التصويب على «حزب الله». لكن المدقّق قليلاً في المشهد التلفزيوني، لا بد من أن يلحظ التطور الحاصل على قناة «الجديد» التي واكبت الحراك منذ اللحظات الأولى، وبدأت منذ تاريخ 19 تشرين الأول (أكتوبر) ـــ أي بُعيد إلقاء السيد نصرالله لخطابه الأول ــــ هذه الحملة الواضحة عليه. خرجت المحطة مساء، بمقدمة نشرة أخبار لم تعهدها أدبياتها من قبل، عندما استهلّت بـ «لا كلام يعلو على صوت الشعب، فهو السيد والرئيس»، وأسئلة حول «ماذا فعل حزب الله حيال هذه الزمرة (بري، جنبلاط والحريري)، ولماذا أعاد اليوم حمايتها معارضاً استقالة الحكومة وإسقاط العهد؟». يمكن البدء من هذه النقطة، لنبني عليها في تحليل أداء «الجديد» حيال الحزب وجمهوره، واستخدام هذا الجمهور لمحاولة التصويب عليه. تظهّر هذا الأمر من خلال أجندة واضحة، بدأت أولاً بإخفات أي صوت من المحتجين يحاول الكلام إيجابياً عن الحزب وأمينه العام، إما عبر مقاطعته أو تشتيت الصورة وانتباه المشاهد. لاحقاً، بدأت المحطة في التغلغل أكثر في المناطق المحسوبة على الحزب، وتشهد حراكات شعبية غاضبة من الوضع المعيشي الحاصل في البلاد، مثل صور، النبطية... ويوم السبت الفائت، عنونت المحطة تقريرها «متظاهرون من بعلبك: نحن مع المقاومة لكننا نريد الأمن والأمان». في المضمون تجمّع لنساء بعلبك ورفضهن للسياسات الاقتصادية الحالية، لكن ماذا فعلت المراسلة هنا (جويل الحاج موسى)؟ أقحمت عبارة «المقاومة» في معمعة التحرك، فسألت إحداهن: «أنت مع المقاومة؟»، وتبعته بآخر: «ما بتخافي ينقال أنه نازلين ضد المقاومة؟». اشتغلت هنا، عبارة «مقاومة» لتدخل في بازار المحطة، وتختلط مع باقي عناصر الاحتجاج، للتصويب عليها وتصوير المحتجين على أنهم خارجون عنها. هذا ما تظهّر أيضاً، في تقرير ثانٍ، من ساحة «خليل مطران» في بعلبك، يتحدث عن «لسان حال المتظاهرين في بعلبك: نحن مع المقاومة لكننا نثور من أجل حقوقنا»!
ومع نسبة الوعي المرتفعة في الشارع، التي عرفت جيداً أجندة المحطة، استمرت «الجديد» بهذه اللعبة. يمكن العودة هنا، إلى حلقة خاصة بُثت في الليلة عينها، أدارت جزءاً منها راشيل كرم مع المحتجين في ساحة «الشهداء». في تلك الحلقة، خرج أحد المتظاهرين الآتي من منطقة النبطية، وحاولت كرم جرّه ومن حوله من جمهور إلى المستنقع.
عنونت قناة «العربية»: المتظاهرون يُسقطون هالة نصرالله

هكذا فجأة، توجهت إلى الحضور وطلبت منهم رفع الأيدي للمؤيدين للحزب، فقالت: «مين مؤيد لحزب الله؟»، «مين مؤيد للمقاومة؟». هنا، خرجت أصوات سريعاً، لتعترض على هذا الخلط، فعاد الشاب المستصرَح ليصوّب لها المسار: «كلنا مقاومة مش بحاجة لشهادة من حدا... الموضوع مش موضوع مع المقاومة الموضوع هو وجع الناس». الأمر لم ينته هنا. خلال استصراح صبية أخرى آتية من «الشوف»، وأكدت في بداية حديثها عن رفضها لشتم حسن نصرالله، تدخلت مراسلة المحطة هنا، لتقول لها:« مش السيد هو من الطبقة (السياسية)؟»، وحاولت بعدها طرح نظريتها في مساواة كل الأطراف السياسية بالشتم!
هكذا، أُخفِتت الأصوات المهاجمة لغالبية الطبقة السياسية وأحزابها، بل تظهّر خطاب آخر يدعم ـــ على سبيل المثال ــــ سعد الحريري من قبل المتظاهرين أنفسهم. مسار امتدّ على أسبوعين، شُغِل فيه بإتقان على إقحام «حزب الله» في اللعبة الإعلامية والشعبية، والتحريض عليه، واجتزاء خطاباته التي تُسهم في تأجيج الشارع. ولا شك في أن هذه الحملة لا تنفصل عن سياق إقليمي يلعب في الساحة اللبنانية، ويجد منافذ له اليوم، من خلال اختراق الحراك الشعبي واختطاف مطالبه المعيشية المحقّة.



lbci قطفت اللحظة
في ظل تصاعد غضب «الجمهور الشيعي» على «الجديد» وتظهير نقمته تجاه القناة التي يشكل فيها الجزء الأكبر من جمهورها، دخلت lbci على الخط وقطفت هذه اللحظة. كان لافتاً، دخول المحطة نهار الجمعة الماضي إلى أحياء الضاحية الجنوبية، كمواكبة لمسيرات داعمة لـ«حزب الله» بُعيد انتهاء خطاب السيد حسن نصرالله. فتحت الهواء وقتها لساعات طويلة، حيث نقلت استصراحات المتظاهرين ضمن هذه البيئة، من دون أن يتسنّى لزميلتها «الجديد» الدخول إلى تلك المنطقة. وفي اليوم الثاني أيضاً، نزلت المحطة إلى الضاحية، ووقفت على خاطر أبنائها، ونقلت استعدادهم للنزول إلى الساحات في حال تطلّب الأمر ذلك. دخول المحطة على الخط يُعدّ خرقاً واضحاً للصورة التلفزيونية المكرّسة، إذ اشتغلت القناة بذكاء واختطفت جمهور «الجديد».