على إيقاع الاحتجاجات الشعبية الواسعة تتبدى فرص حقيقية لإعادة تأسيس لبنان كدولة مدنية حديثة تلغي من قاموسها السياسي والاجتماعي المحاصصات الطائفية في تقاسم السلطة والنفوذ. كانت الاحتجاجات بزخمها الاستثنائي واتّساع نطاقها إلى كلّ المناطق اللبنانية أقرب إلى إعلان وفاة متأخّر للنظام الطائفي، الذي يخاصم عصره ويحول دون تكافؤ الفرص وفق معايير الكفاءة وحدها في تقلّد المناصب والوظائف. لم يكن الضجر بالنظام الطائفي شرارة الاحتجاجات، فقد اندلعت واتّسعت على خلفية فرض ضرائب جديدة على شعب يعاني ويتوجّع من تبعات الأزمة الاقتصادية، فيما الفساد يطلّ برأسه وهدر المال العام يعلن عن نفسه في السياسات المتّبعة. في الوجع الاجتماعي المشترك اكتشف اللبنانيون مجدداً، أنهم شعب واحد ومعاناة واحدة ومصير واحد يتجاوز الطوائف والمذاهب، وأن وحدتهم في الميادين شرط ضروري لنجاح الاحتجاجات في تحسين أحوالهم المعيشية والدفع بالبلد كلّه إلى مسار يلتحق بعصره في الحقوق الأساسية لشعبه كمواطنين لا كرعايا في دولة الطوائف. لم يكن الضجر من النظام الطائفي أمراً طارئاً اكتُشف فجأة في الاحتجاجات اللبنانية، فقد دأب عدد كبير من المثقفين والمفكرين اللبنانيين لعقود طويلة، ربما منذ تأسيس الجمهورية أربعينيات القرن الماضي، على نقد ذلك النوع من الحكم والدعوة إلى تجاوزه. الجديد - هذه المرة - أن ما كان يتردّد في نطاق محدود، وداخل نخب بعينها، بات موضوع إجماع وطني صوته مدوٍّ في ميادين الاحتجاج ورسالته واصلة إلى المستقبل. بغضّ النظر عن قدر النجاح الذي يمكن أن يحققه الحراك اللبناني فإن ما حدث يؤسّس لما بعده بقدر ما يستقر إلهامه في الوجدان العام لأجياله الجديدة. هذا تطوّر له ما بعده، لكنه يصعب التحول من حال إلى حال بضغطة زر. هناك منزلقات كثيرة تعترض لبنان قبل أن تنجح انتفاضته في أن تصل إلى أهدافها، التي ألهمت التوحد الوطني في ميادين الغضب.أولها، إعادة إنتاج النظام من جديد، وهو سيناريو لا يمكن استبعاده. القضية تتجاوز الرجال إلى طبيعة النظام نفسه والذهنية التي كرسته والمصالح التي استقرت في بنية المجتمع والسلطة.
إذا نجحت الاحتجاجات في تجاوز ذلك السيناريو فإننا سوف نكون أمام ثورة حقيقية متكاملة الأركان. هذه ليست مسألة سهلة، والنجاح فيها يعني كل عربي كما كل لبناني، لأننا سوف نكون أمام نموذج جديد يلهم تغييراً مماثلاً في بلدان عربية أخرى تعاني وطأة الطائفية وأشباح التقسيم تلوح في جنباتها. وثانيها، التوظيف الزائد للحراك الشعبي لغير أهدافه ومقاصده لتصفية حسابات سياسية، أو غسل الشخصية بكل آثام تاريخها ركوباً لموجة الغضب، أو نيلاً مما يتوافر للبلد من قدرة على مواجهة التغولات الإسرائيلية على مصائره وسلامته. مثل هذا التوظيف قد يدفع لتشققات في بنية الحراك الشعبي تأخذ منه وحدته وتماسكه على مطالب محددة، وربما تدفع – بالتداعي – إلى استقطاب شارع في مقابل شارع بما يجهض الفرص السانحة لتأسيس دولة جديدة تلتحق بعصرها وتستجيب لإرادة مواطنيها.
وثالثها، أنه لا يوجد جسم قيادي للحراك الشعبي، لا برنامج محدّداً ولا خطّ سير يمكن توقعه. تلك نقطة قوة في بداية أي حراك تفضي إلى اتساع زخمه، حيث تقل أية منازعات معتادة على مقاليد القيادة إلى أدنى درجة ممكنة، غير أنها بمضي الوقت تتحول إلى نقطة ضعف، حيث يسهل نسبياً اختطاف الحراك وإجهاضه، أو خفض طموحه بإطلاق وعود سرعان ما تتبدد وتدخل دوائر النسيان بعد حين والتجارب العربية حاضرة في استخلاص الدروس.
هناك بدعة سياسية لا تعرفها الدول الأخرى عنوانها «الديمقراطية التوافقية»


تسنى للحراك السوداني إحداث اختراق كبير في معادلات السلطة والحكم لم يكن متصوراً حدوثه بفضل نجاحه في بلورة قيادة مفوضة كلمتها مسموعة في إدارة المواقف المتأزمة. فيما لم يتمكن الحراك الجزائري من إحداث مثل ذلك الاختراق حتى الآن لغياب أية قيادة مفوضة تتحدث باسمه.
رابعها، أنه لا يوجد تعريف متّفق عليه للنظام الذي يُراد إسقاطه.
المعضلة الحقيقية: كيف يمكن التحول من نظام إلى آخر إذا غابت المفاهيم الأساسية؟
في بلد مثل لبنان رئيس الجمهورية لا يلخّص النظام، ولا الحكومة عنوانها الرئيسي. هناك بدعة سياسية لا تعرفها الدول الأخرى عنوانها «الديمقراطية التوافقية»، بمعنى أن كل القوى السياسية بتعبيراتها الاجتماعية والطائفية المختلفة شركاء في الحكم من دون إقصاء لطرف، وهذا يلغي من الجذور فكرة المعارضة النيابية والسياسية واستبدالها بالمناكفات بحثاً عن حصص أكبر في كعكة السلطة. للديمقراطية التوافقية منطقها في تجنّب الاحتراب الأهلي، الذي دفع فواتيره لبنان باهظاً من استقراره وسلامته، غير أنها تكرس في الوقت نفسه النظام الطائفي وتضفي عليه مسحة أخلاقية.
هذه معضلة أخرى تستدعي خريطة طريق متوافق عليها لتجاوز المحاصصات الطائفية أو إعادة تأسيس لبنان جديد اجتماعياً وثقافياً وسياسياً من دون الوقوع في دوامات الفراغ السياسي.
هل هذا ممكن في الظروف الحالية التي تتفاقم فيها أزمة ثقة تشمل الطبقة السياسية كلها؟
رغم أن الحكومة اللبنانية الحالية حاولت تدارك الموقف تحت ضغط التظاهرات، وتبنّت في 72 ساعة ورقة إصلاحية انطوت على كثير من الإجراءات التي يطالب بها مواطنوها، إلا أن أزمة الثقة أفضت إلى اعتراض واسع على تلك الورقة.
هناك ما يستدعي النقاش في نقطة أو أخرى، إلا أن أحداً لا يثق في الالتزام بها، والسؤال الذي تردّد وسمع صداه في العالم: إذا كان ممكناً التوصل إلى ورقة إصلاحات في هذا المدى الزمني القصير للغاية، فما الذي منع الحكومة من أن تقدم على أي إصلاح على مدى ثلاث سنوات كاملة؟ هناك دعوات لحكومة مصغرة من الاختصاصيين تتبنّى الإصلاح وتدعو إلى انتخابات نيابية مبكرة.
في الدعوة ضجر من الطبقة السياسية، وهذا مفهوم وطبيعي، غير أن هناك مشكلة: من يختار الحكومة الجديدة؟
بطبيعة الأمور فإنها تحتاج إلى تفويض. سؤال آخر: من يعطيها التفويض؟ الحراك الشعبي الذي سوف تنفض تجمعاته في هذه الحالة.. أم الطبقة السياسية المغضوب عليها؟
هذه أسئلة معلّقة في فضاء الاحتجاجات تقلق كلّ من تتعلق مشاعره بلبنان، آملاً أن يحقق ما يتطلع إليه شعبه من إعادة تأسيس دولته وفق قواعد المواطنة لا المحاصصة.
* كاتب مصري