«جايين نقُلّكم ما تسيبوش الشارع، لو سبعين يوم ولو سبعين سنة، ما تسيبوش!»، هي صرخة وجّهها شاب مصري يعيش في لبنان وشارك أمس، في مظاهرة وسط بيروت. صرخته تنبع من القمع الذي دفعه للمجيء إلى لبنان، يستخلص العبرة: «نحن سِبنا وبعبصوا فينا، القضية مش قضيّة لبنان وحده، هي قضية الشعوب العربية كلّها وأنتم بلد معقّد ويليق بكم التغيير». المتضامنون العرب عبر السوشيل ميديا كانوا كثراً وكانت العين على بيروت. المتضامن المصري محقّ في رأيه بـ«تعقيدات» النظام اللبناني، إلاّ أن التماس حماسة الناس الذين توافدوا بكثافة بعد ظهر أمس، إلى ساحتي الشهداء ورياض الصلح، يبدّد الكثير من الأوهام حول سلطة خائفة من شعبها.خوف السلطة تجلّى في التضييق الكبير الذي قامت به القوى الأمنيّة، في مشهد يذكّر بممارسات عام 2015، على جميع الشوارع المؤدّية إلى ساحة رياض الصلح. الأسلاك الشائكة ارتفعت من جديد: طبقتان وثلاث منها، لتفصل بين حاجز القوى الأمني أمام السراي الحكومي والمتظاهرين في رياض الصلح. الأسلاك قَطعت أيضاً كلّ الطرقات المؤدّية إلى ساحة النجمة، وحده شارع المصارف قطعه فوج التدخّل السريع في قوى الأمن الداخلي. عناصر الفوج اصطفّوا طوال اليوم، بجعبٍ مليئة بقنابل الغاز المسيل للدموع، لمنع المتظاهرين من دخول وسط البلد.
تقطيع أوصال الشوارع المؤدّية إلى البرلمان، بخلاف قرار وزيرة الداخليّة «الرقم 1» لدى استلامها الحقيبة حيال إزالة العوائق والبلوكات من الطرقات، لم يمنع من التحام المشهد. فبعد أن كانت الفجوات تفصل بين مجموعات المتظاهرين قبل الظهر، تلاحمت في ما بعده ومساء. تحوّل المشهد تدريجياً، من «نزهة» نهاية الأسبوع في وسط البلد، إلى مظاهرة حاشدة. صدحت الأغاني، قُرعت الطبول، عُقدت حلقات رقص، انتشر بائعو المياه، تطوّع عدد كبير من المشاركين لجمع النفايات، رُفع العلم اللبناني وحده... ولافتات تفاوتت بين الجديّة والفكاهة: «استعادة الأموال المنهوبة، لأجل شهيد مجزرة مار مخايل يوسف شقير (2008)، نحن البؤساء أُنظر أسفل اللافتة، مظاهرة سلميّة نحن طلاب الجامعة اللبنانية، يسقط حكم المصرف، سدّوا العجز من جيوبكم، إفرضوا الضرائب على المصارف، لن تسرقوا غضب الناس». عادت جدران بيروت لتتزيّن بالكتابات والشعارات. هذا كلّه، يُضاف إليه استمرار الهتافات المندّدة بالحكومة والعهد، موصولة بكيل شتائم للسياسيين لقيت ترحيباً من المتظاهرين، في مشهد ليس تفصيلاً في كسر حاجز الخوف لدى الناس. كسر هذا الحاجز، اتّضح أيضاً في صعود المتظاهرين إلى الأبنية المهجورة في وسط البلد لرفع الأعلام والشعارت، ومنها دار الأوبرا. أما الطرقات المؤدّية إلى وسط البلد، فتحوّلت إلى باركينغ للدراجات الناريّة التي كانت الوسيلة الأبرز للتنقّل في ظلّ قطع الطرقات.
خوف السلطة تجلّى في التضييق الكبير الذي قامت به القوى الأمنيّة


عُلّقت أوراق مجهولة المصدر، على جدران الأبنية المحيطة بساحة رياض الصلح، تدعوا المتظاهرين إلى تصويب الهدف «الحكام الهدف، وليس الجيش»، لكنّ الأكيد أن مصدرها ليس معتقلو ليل الجمعة - السبت في المخافر. التجمّعات في الجنوب والشمال والبقاع، لم تغب عن بال المعتصمين في العاصمة، فارتفعت الهتافات لمناصرتها. من برج رحّال الجنوبيّة، جاء حسن هرباً من المواجهات الدامية في صور، يقول: «من تظاهر معنا يوم الجمعة، بدّل موقفه صباح اليوم ونحن لا نريد مواجهة دامية، لذلك قرّرنا الانضمام إلى مظاهرات بيروت». من الضاحية كانت المشاركة بارزة، تجمّع «المقاومة المدنية» حضر بقمصان مطبوعة. أحد المشاركين يستنتج «من الآخر إذا ما نزلنا منكون بلا شرف».
بالرغم من أنه من طريق الجديدة، إلاّ أنه «مع إسقاط الحكومة ونازلين ضدّ السياسيين كلّن، ومن ضمنهم الشيخ سعد». مصروفو وسائل الإعلام حضروا بمطالبهم وقهرهم أيضاً. نورهان نزلت من السان تريز (الحدث)، تجيب على سؤالها عن سببها الأول للنزول، بأن «لازم تسألونا ليش ما بدنا ننزل؟». رجل خمسيني حضر من بلدة نحلة (بعلبك)، ليقول: «أكلونا وشربونا كلّ السياسيين. مع تصحيح الوضع المالي». إبن البقاع سمع خطاب السيّد صباحاً، ويعلّق «أعرف أنه مع الناس، ولا يريدنا أن ننزل كحزبيّين، سننزل لأن الوضع لم يعد يحتمل». أمل (28 عاماً) من سكان بيروت «كنت أحاول الهجرة، هذه فرصة أخيرة لتحقيق مطالبنا». القادمون من عاليه نزلوا باكراً، ومطلب إحداهنّ: «خلَص فساد!». عدد كبير من المتظاهرين، سجّل أمس مشاركته الأولى. سناء، انتظرت مثل كثيرين مصير التحرّك الشعبي قبل أن تختار الانضمام إليه، وتعلّق «نزلت لأن كنا ناطرين الحكومة تستقيل، هلق فقدنا الأمل بكل السياسيين».
حسين العشريني لا يعلّّق على الفيديوات المتداولة من الجنوب، لديه جملة واحدة ليقولها: «شو ناطرين من بلد رئيس حركة المحرومين فيه، ملياردير!». كثر من المتظاهرين افترشوا الطرقات وجلسوا على حافة واجهات المحال التجاريّة في وسط بيروت، هل هو الإحباط؟، تجيب إحداهنّ: «لا بالعكس، نستريح بعد يومين من التظاهر».