تكاد الجريمة السياسية والاقتصادية الحريرية المتمادية أن تصير كاملة. والأرجح أننا نشهد، اليوم، فصل اكتمالها (انفجارها!) الذي تأخّر لأكثر من ثلاثة عقود كاملة. أما السبب الذي مكّن من هذا التأخير وجعله ممكناً، وسمح، تالياً، باستفحال الأوضاع وتفاقمها، فعائد، في واحد من جوانبه، إلى فصول التشويه السياسي وفائض الأكاذيب المزيّنة بالتضليل الإعلامي. وهو التضليل الذي خبره اللبنانيون جيداً في غير محطة من محطات الحيوية الاجتماعية والمطلبية، الخارجة عن السياق المرسوم. فهذا الإعلام، الممسوك من أصحاب السلطة السياسية - الطائفية نفسها يتابع اليوم، أيضاً، المَهمة القذرة إياها: التغطية على التنصّل الوقح ومحاولة محو الآثار وطمس الأدلة والتعمية عليها، من خلال لفظية بائسة وبائدة تفسّر الأزمة واستشراءها المريع بتفسيرات بحت تقنية تبدأ بالكلام التافه عن العرقلة ولا تنتهي بامتناع التعاون.الموضوع الأصلي، كان ولا يزال، في جوهره، هو موضوع السياسات والخيارات الاجتماعية المنحازة لأصحاب الثروات على حساب الشريحة الأعرض من الناس. والمسؤولية عن هذه السياسات، التي أوقعت بالبلد وأفقرت مواطنيه وأذلّتهم، تقع أول ما تقع على عاتق الحريري وتياره السياسي العريض ومن ضمنهم الشركاء من مقاولي السياسة ومحترفي السرقة.
معطيات الواقع السياسي المأزوم، ووقائع التأزّم الاقتصادي ـ الاجتماعي الذي يُرخي بثقله على عموم اللبنانيين تؤكد على حقيقة اكتمال الجريمة الموصوفة التي قامت على الوعود الكاذبة وحاجات لبنان ما بعد الحرب واستظلّت به، إذ وفّرت يومها، مع غيرها من الأسباب، الأسس التي فُتحت على تشريع النهب وتعميمه، وأوصلت البلد إلى الحال الذي وصل إليه.
وما من شكّ أن ولادة الحراك الشعبي جاءت على هذه الأرضية الواضحة. ولأن الحراك كذلك، ترتفع المخاطر التي تحيق به. فالمسؤولون المأزومون إياهم، وأمام فشل رهاناتهم الداخلية والإقليمية، ونتيجة لتراجع قدراتهم على النهب السياسي والمالي، لن يتأخروا في محاولة ركوب موجة الحراك النبيل. وما تصريحات بعضهم بدءاً من وليد جنبلاط وحتى أصغرهم إلا المؤشر على النوايا الخبيثة التي تراودهم. بل إن تنصّلهم الوقح والسافر يؤكد على جدّية مسعاهم الخطير الهادف إلى سرقة الحراك وتجييره في خدمة أجنداتهم المجرمة، وهو ما يمكن له أن يؤدي إلى فوضى عارمة سترتد على وضع البلد الدقيق.
لذلك، يمكن القول إن الحراك العفوي الذي فجّرته أوجاع الناس وعجزهم عن الاستمرار في تحمّل تبعات تمويل النهب المنظّم قد كشف عن وجود مناعة اجتماعية ووطنية غير متوقّعة، وهو ما تجلّى باجتماع الناس على التنديد بالنهج السياسي المعتمد. الحراك الواعد يفتح الأفق أمام إمكان فرملة الانهيار. وهذا ما لن يتم إلا بعد فرض إدخال تعديلات جدية على الأجندة السياسية - الاقتصادية المعتمدة.
إلا أنه وبقدر الآمال الكبيرة المعقودة على الحراك في فرض تعديل الوجهة العامة للسياسات الاقتصادية البائسة القائمة على استسهال وضع الضرائب، وضرب المكتسبات الاجتماعية المتبقية، تبرز المخاوف وترتفع الخشية من عجز الحراك عن حماية نفسه، خصوصاً مع المؤشرات التي تدل على إمكان نجاح الطامعين في التسلل إلى صفوفه، ومن ثم توظيفه لتحقيق غايات لا علاقة لها بأصل الغضبة المحقّة والمطلوبة. فعنوان القوى المعادية لمصالح الناس وحقوقها واضح ومعروف: إنها القصور. وحذار من إضاعة العنوان.
وما يزيد من الخشية أن الناهبين الفعليين قد كشّروا عن أنيابهم وباشروا مساعيهم الرامية إلى تشويه الحراك ومحاولة حرفه عن أهدافه التي عبّرت عنها الصرخات المطلبية الجامعة. وتدل التصريحات الصادرة خلال اليومين الماضيين، عن رموز السياسات المدمّرة، على فظاعة التحلّل الوقح وشناعته. إذ أن من شأن نجاح السياسيين المأزومين في التسلل إلى صفوف الحراك، وتراكم المؤشرات على إمكان نجاحهم في الاختراق المسموم، أن يهدد بإضاعة فرصة لبنانية جديدة.
منظومة النهب العظيم تعلن، وبالضد من كل الحقائق والأدلة، من خلال وجهها الأقبح، وليد جنبلاط، عن استعدادها للمضي في حربها على الناس، كل الناس. وهي ستحاول، كما عادتها، النيل من كل المحاولات التي تهدف إلى استعادة الناس لصوتهم في مواجهة الانفراد الكامل. وهي تقول، بلسان الحريري وجنبلاط وباقي أطراف المنظومة، الظاهرين أو المستترين، إنها لن تتورّع في سبيل المحافظة على ديمومة الموارد واستمرار النهب عن الإطاحة بمجمل البنيان. وما محاولاتهم التي بدأت لحرف الحراك الغاضب عن أهدافه إلا دليل على هذا القدر الإجرامي الذي لم ولن يرتدع إلا حين يأخذ الناس على عاتقهم مَهمة التنبه والتصويب الصحيح. لذلك فإن التحلّل من المسؤوليات المؤكدة والتنصّل من تبعات ما اقترفوه واحد من الأسلحة التي يهددون بها اللبنانيين الذين تنادوا إلى إعلان الغضب في الساحات.
إن الرسالة التي مثّلتها سلسلة المواقف والتصريحات الصادرة عن ثنائي النهب والسرقة، ومحاولاتهما الدنيئة السطو على الحراك ومصادرة أهدافه أو تشويهها تبدو بليغة، بل وأبلغ مما نتصور. وجوهر الرسالة التي تفوح منها رائحة الدم، ومعها الخراب، أن منظومة النهب العظيم لن تتوقف، ولن تقبل بأقل من استمرار إطباقها على مفاصل المال والنفوذ. والثابت عندها أن التساهل أو التراجع ولو خطوة واحدة سيفتح الطريق أمام الخطر العظيم... وهذا، على ما تقوله وقائع اليومين الماضيين، ومجازفات أمير الحرب المأزوم مما لا يسعها التهاون فيه. والتاريخ اللبناني القريب يزخر بالأمثلة المعبّرة. ففي كل مرة تقترب البلاد من محاسبته يستنفر العصبية ويهدد بالحرب...
إن جوهر الأزمة التي يعيشها البلد يكمن في إصرار من اعتاد التعيّش على مكتسبات السلطة من خلال الإمساك بالمغانم والأسلاب التي بات يعتبرها حقاً مقدساً لا يجوز الاقتراب منه. أما القول بالمشاكل التقنية، والدعوة إلى تسهيل المَهمة فمحاولات هروب بائسة إلى الأمام ولن تنفع معها صرخات التحريض ولا وسائل التعبئة الطائفية والمذهبية التي شرع بها أمير الحرب العجوز. والصراحة تقتضي القول إن المشكلة أبعد بكثير من أن تكون تقنية، وليست في سوء الإدارة وترهّلها، ولا في فساد هذا أو ذاك من أبناء العصابة التي أمسكت بالبلد طيلة العقود الثلاثة الماضية. فهذه العناوين على أهميتها مجرد تفاصيل لا تقدم ولا تؤخر كثيراً إن لم تكن مسبوقة أو لنقل مقرونة بمقاربات مختلفة أعمق تأثيراً وأشد فعّالية. فالمشكلة الفعلية، نكرر مرة ثانية وثالثة، هي في الخيارات السياسية والاقتصادية التي تحكم البلد وتقبض على روحه. إنها في الانحياز إلى أصحاب الثروات لمفاقمتها على حساب الضعفاء لسحقهم.
كان لافتاً في كلمة الحريري حديثه عن المجتمع الدولي والتوجه إليه. إن في هذا الكلام الغريب، ربطاً باللحظة السياسية المخيّمة، ما يكشف عن خبث الطرح وخطورته. أما حديث العرقلة نفسه فينمّ عن أمرين لا ثالث لهما: إما جهل مطبق وهذا مؤكد ومعروف، وإما كذب مشين. وإن كنا نميل إلى ترجيح الأمرين معاً. المشكلة، وكما بات واضحاً وجلياً في أصل المشروع وأصل الفكرة وأصل الانحياز. كان بوسع الحريري في ظهوره الأخير لو امتلك قدراً ولو ضئيلاً من النزاهة أن يقول شيئاً آخر. ولكن أنّى لمن هو مثله أن يقول شيئاً صادقاً.
لقد تأكد اليوم أن سعد الحريري، ومن معه من حلفاء، أفقر وأعجز من أن يملكوا تصوراً واضحاً لحاضر البلد فكيف بمستقبله. إن من لا يرى غير «المجتمع الدولي»، ويتجاهل واجباته، ويسعى إلى التنصّل الفاضح من مسؤولياته عن وصول البلد إلى هذا الدرك، لن يملك القدرة على وضع الحلول لأزمة بهذا الحجم، إلا إذا تعقّل وأخذ بالمقترحات الإنقاذية التي أجمع عليها خبراء الاقتصاد المشهود لهم والتي يواصل تجاهلها.
المهم، اليوم، أن الجسم الاجتماعي اللبناني، وقد أظهر المناعة التي غابت حتى كدنا نصدق أنها انعدمت، يستعيد بعضاً من المبادرة المفقودة. لكنها استعادة محفوفة بالمخاطر. فالمعركة على منظومة النهب المجرمة ربما كانت أصعب من المعارك الأخرى التي خاضها اللبنانيون دفاعاً عن الأرض وصوناً لها. إلا أنها قد تكون فرصة لا تتكرر لكنس العصابة التي احتكرت الثروة وتمسك برقاب الناس ومصائرهم. لكن الشرط الأول والأخير هو حماية صفوف الحراك من تسلل المجرمين إياهم الذين أفقروا البلد وحطّموا اقتصاده ولوّثوا هواءَه وسمّموا أرضه...