كانَ لبنان بأسرِه على أعصابِه، يحبِس أنفاسَه وهو يُشاهد النار تلتهِم أحراجه، حينَ كانَت «إسرائيل» تقضُم المزيد منها جهة الجنوب. الثلثاء الماضي باشرَ جيش العدو الإسرائيلي، في تركيب مكعّبات اسمنتية بالقرب من الطريق العسكري المُحاذي لموقع تلّة الحماري مقابل بلدة الوزاني. وتابعها يومَ أمس بأعمال حفر ورفع للسواتر الترابية خلف الجدار الإسمنتي في محلّة العبارة مقابل بلدة كفركلا، مثبتاً حوالي 23 «بلوكاً» ومتقدّماً 20 متراً داخل أراضٍ لبنانية (مُتحفّظ عليها). تطوّر أمني تحدّث عنه وزير الدفاع الياس بوصعب أول من أمس، لكن الحكومة واجهته بصمت مُريب وغير مبرّر حتى الآن.
تزامُن الحدثين لا شكّ أنه صدفة، لكن إسرائيل تعرِف كيف تغتنِم الفرص. بما أن الدولة اللبنانية «غاشية»، لا يتوقّف العدو عن التقدّم باتجاه نقاط متنازع عليها وحتى ما بعدها. وليسَ عابراً أن يفعَل ذلك، في وقت يُقرّر فيه مُساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى ديفيد شينكر إرجاء زيارته المقرّرة إلى بيروت منذ يومين. الأخير، صارَ المسؤول عن هندسة مشروع التفاوض غير المباشر على الحدود البرية والبحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة، الذي من الواضح أن إسرائيل تستغّل الواقِع الحالي داخل لبنان للتنصّل منه، وفرض ما تريد بالأمر الواقِع في الوقت الضائِع.
هذا الأمر أثاره في لقاء الأربعاء النيابي الرئيس نبيه بري، مُتسائلاً «أين التصدّي لقضم العدو الإسرائيلي لـ 20 متراً في إحدى النقاط المتحفّظ عليها؟». ونقل عنه النوّاب قوله «يلوموننا على الربط بين حدودنا البرية والبحرية ويستغربون تمسّكنا بالمقاومة التي هي في أبسط الأحوال مصلحة للبنان». فيما وصفت مصادر مطلعة الوضع في الجنوب بـ«التطوّر الخطير»، و«محاولة من قبل العدو لجسّ النبض بهدف التمادي لقضم أجزاء واسعة من الحدود تبدأ من النقاط المتحفّظ عليها في البرّ، بما يعني مُصادرتها، حتى تمتد إلى الحقل النفطي البحري وحرمان لبنان منه».
ما حصل في اليومين الماضيين، هو خرق قديم متجدّد. يقوم به العدو من موقع «معيان باروخ» العكسري (قرب مستوطنة تحمل الاسم نفسه)، مقابل محلة الميسات جنوب قرية الوزاني. وهذه المنطقة تقع في أرض لبنانية خالصة مئة في المئة، استناداً الى الحدود الدولية التاريخية، من خارج الخط الأزرق. لكنها، في نظر تدخُل قوات الطوارئ الدولية (اليونيفيل)، ضمن المناطق «المتنازع عليها»، وممنوع البناء فيها، مع أن الموقع المعادي يخترق الحدود اللبنانية أصلاً من خلال شريط شائك، بينما ما يقوم به العدو حالياً هو تركيب البلوكات لبناء جدار وفرض أمر واقع جديد، تماماً كما حصل في العديسة ونقطة الـ B1 عند رأس الناقورة. ففي أيار الماضي، رُصد تحرّك إسرائيلي في هذه النقطة (أقصى الجنوب اللبناني في رأس الناقورة) حيث دخلت إلى المنطقة 3 جرافات تابعة لقوات الاحتلال.
«إسرائيل» تسعى إلى فرض أمر واقع في الوقت الضائع


وفيما «يُحظر» على الجيش اللبناني إطلاق النار للدفاع عن أرضه بقرار سياسي، لا يزال يتصرف ضمن حدود الصلاحيات المُعطاة له. سجّل اعتراضه لدى «اليونيفيل»، وأرسل نسخة إلى وزارة الخارجية. أما قوات الطوارئ فلا تزال تتلكّأ عن القيام بواجباتها، إذ لم تؤدّ الدور المطلوب منها، علماً بأنها تعرف النوايا الإسرائيلية المبيّتة في منطقة الوزاني كما يعرفها لبنان (راجع «الأخبار» الأربعاء 16 تشرين الأول 2019/ «الاجتماع الثلاثي: عين العدوّ على الوزاني»). وبينما اكتفى الناطق الرسمي باسم «اليونيفيل» أندريا تيننتي بالقول إن «مراقبي القوات الدولية يتابعون ما يحصل في الوزاني منذ أيام»، قال في اتصال مع «الأخبار» إن «قائد قوات الطوارئ ستيفانو دل كول يتولّى التواصل مع الأطراف لحل الوضع في هذه المنطقة المتحفّظ عليها، التي تقع جنوب الخط الأزرق. وقد أبدت هذه الأطراف استعداداً للنقاش في هذه النقطة من أصل 13 نقطة أخرى».
وفي مقابل الدور المشبوه لليونيفيل في الجنوب، يظهر فاقعاً الصمت الرسمي اللبناني على التعديات، فيما تساعد قوات الطوارئ العدو الإسرائيلي على شراء الوقت لصالح الأخير. علماً أن هذه القوات نفسها ترفع الصوت ضد أي حركة من الجانب اللبناني الذي يتراجع أمام ضغوط «المجتمع الدولي». فأين هي الدولة اليوم من كلّ ما يحصل؟
تدرك اسرائيل تماماً الوضع الداخلي اللبناني. السلطة تغرق في أخطر مستنقع مالي - اقتصادي منذ الحرب الأهلية، وتتخبّط في محاولات إخراج البلاد من عنق الزجاجة بما يلبي توقعات المجتمع الدولي، من دون أن تحقق حتى الآن أي نتيجة. فهل يحتاج العدو إلى أفضل من هكذا واقع، وصفه بري أخيراً بأنه «أشد إيلاماً، ويضاهي بخطورته خطر إسرائيل»؟ تقول مصادر سياسية إن «هذا التوقيت مناسب جداً للجانب الإسرائيلي الذي سيسعى في ظل انشغال أركان الدولة إلى كسب المزيد من أوراق التفاوض بما يتناسب مع مصلحته، أي ضمّ ما يستطيع من النقاط واحتلالها فتصبح خارج أي تفاوض مستقبلي». سكوت الدولة اللبنانية تصفه المصادر «بالخطأ المُميت، لأنه يمسح جهوداً كبيرة قام بها الجانب اللبناني خلال وبعد تفويض الولايات المتحدة بهذا الملف برعاية الأمم المتحدة، حين تمسّك بكامل بنود آلية التفاوض بشأن ترسيم الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة. وأساس هذه الآلية التلازم في الترسيم بين الحدود البرية والبحرية، لأن أي تنازل بالأمتار في نقاط البر يمكن أن يخسّر لبنان كيلومترات عدة من مياهه البحرية وبالتالي ثروته النفطية، وهو ما تحققه إسرائيل اليوم من دون تفاوض، بالقوة والأمر الواقع».