تعاني الدول من انهيار أسعار صرف عملتها مقابل العملات الأجنبية الأساسية عند كل أزمة. في ايران، مثلاً، انهارت العملة إلى حدود غير مسبوقة بعد إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب انسحاب بلاده من الاتفاق النووي الإيراني وفرضه عقوبات على الشركات والدول التي تتعامل مع السلطة الحالية، فأعلنت كبريات الشركات الدولية، كـ«بوينغ» و«ايرباص» و«توتال» وقف خططها الاستثمارية هناك، وانسحاب شركات من السوق الإيرانية وسحبها لأرصدة في مصارف، ما شكّل تربة غير مستقرة سياسياً وعملاً سلبياً مهدداً للعملة المحلية.الأمر نفسه حصل في تركيا، بعد محاولة الانقلاب قبل عامين، وسجن عشرات الآلاف من رجال الأعمال وكبار الموظفين الكبار ورجال الأمن وموظفي القطاع العام، وبعدما تحولت السلطات كلها في يد رجل واحد وما أعقب ذلك توتر أميركي - تركي.
أما في لبنان، فقد شكل الوضع النقدي، دائماً ومنذ عام 1993، عاملاً سلبياً. ورغم الأموال المتدفقة نتيجة حركة الإعمار، إلا أن سياسة تثبيت سعر الصرف للعملة المحلية في ظل تدفق مليارات الدولارات كودائع مصرفية لدول وحكومات بالعملة المحلية، مع استدانة عشرات المليارات وضخها في السوق المحلي كإستثمارات في البنى التحتية وفي المشاريع الصحية والتربوية وغيرها، اعتبر ضربة غبية. إذ كان الهدف منها إعطاء ضمانة لأصحاب الودائع الكبيرة على أموالهم، ناهيك عن أسعار الفائدة الخيالية التي كانت أكبر من أي إيرادات استثمارية، داخلياً أو خارجياً، وعن تعارض التثبيت والطمأنة مع الأرباح التي يجب أن تكون ناتجة عن المخاطرة التي يتكبدها صاحبها. وبدل أن ينفق مصرف لبنان مليارات الدولارات من ودائعه وموجوداته من أجل سعر اسمي غير واقعي، كان الأجدر أن يكون للعملة هامش حركي عال ومنخفض، تتحرك بموجبه وتشكل عاملاً داعماً، وتساهم في لجم السياسي المتثعلب الذي يراهن على أوراق خارج حدود وطنه، فيعلو صوته على شريكه في الوطن عند كل هزّة أمنية تهتز معها أركان إقتصاد وطنه، .
من هنا، ما الإجراءات الكفيلة بدعم الاقتصاد الحالي والعملة المحلية:
1) خفض أسعار الفائدة للقروض الإنتاجية الخاصة بالمؤسسات الصغيرة والمتوسطة مع وضع سقف لها لا يتجاوز الـ100 ألف دولار، مع تقديم دراسة جدوى لفعالية التمويل والمشروع.
2) مراقبة حسن صرف القروض السابقة المدعومة من مصرف لبنان ومن المؤسسات الرديفة (كفالات) وإرجاعها للدولة إذا لم تصرف على مشاريع إنتاجية مع غرامات على المخالفين.
3) إعادة النظر بسياسات التسليف والشروط التعجيزية، والقروض المجنونة التي توزع غب الطلب لأصحاب الحظوة.
4) الوصول الى حلول سريعة لتصدير المنتجات اللبنانية من خلال سوريا والأردن فالعمق العربي.
5) فرض ضرائب عالية على المستوردات التي لها مثيل لها في الصناعة اللبنانية. والمثيل لا يكون شركة أو معملاً لجهة سياسية، بل قطاع يعمل به آلاف العمال والموظفين.
6) وضع هامش تذبذب لسعر صرف العملة الوطنية، سيؤدي حكماً في ظل الظروف الراهنة إلى تدهور والى اضعاف الكتلة التضخمية الناتجة عن زيادات الأجور السابقة.
7) مراقبة ارتفاع الأسعار في الأسواق الداخلية خصوصاً للسلع الإستهلاكية الضرورية. وهنا يمكن أن تتعاون شرطة البلديات مع المراقبين من الوزارات المختلفة.
8) هامش التذبذب سيؤدي الى زيادة القدرة التنافسية للصادرات اللبنانية التنافسية أصلاً والتي لها أسواق خارجية وتتمتع بنوعية جيدة، كما يزيد الطلب عليها داخلياً، وسيؤدي حكماً بالأسر إلى خفض الإستهلاك القادم من الخارج.
9) إعطاء أوامر للدولة كمستهلك أساسي وحيوي بشراء جميع التلزيمات والسلع من منتجين محليين مباشرين ومن دون وسطاء.
10) حُسن رقابة نوعية الإنتاج المحلي الصناعي والزراعي، ورفده بإجراءات لتقويمه وتطويره وتحسين جودته.
11) قيام أسواق داخلية مباشرة لتسويق المنتجات الزراعية والصناعية اللبنانية أسبوعيا من المنتجين والصناعيين إلى المستهلكين، ويمكن للبلديات والتعاونيات في شتى الأقضية لعب دور حيوي في هذا الشأن.
12) تشجيع المؤسسات الصغيرة على الصمود والمجابهة عبر سياسات تحفيزية، مثل اعطائها إمكانية الضمان الإختياري لعمالها وعائلاتهم ما يزيد إيرادات الضمان الاجتماعي ويخفض عليهم التكاليف الصحية.
13) إعطاء حوافز للمؤسسات الصغيرة عن طريق أسعار وضرائب منخفضة للهيكلية القانونية، الملكية الفكرية، الإنضمام إلى غرف التجارة والصناعة، التدريب الفعال ذو الكلفة المخفضة في شتى الحقول والمجالات لأصحابها وموظفيها والعاملين بها.
14) ضرائب تحفيزية، إذ من غير المنطقي أن تكون الضريبة متساوية لكافة المؤسسات والقطاعات وفي جميع الفروع الاقتصادية، بل الأجدر توزيعها حسب جدول الإيرادات (دائرة كبار المكلفين تلعب دوراً مباشراً).
15) جميع المؤسسات التي تعمل على الأراضي اللبنانية يجب أن تسعر سلعها بالعملة الوطنية، ولا يجب أن تتعامل إلا بالليرة اللبنانية، هذا ما تفعله أكبر الدول السياحية في المنطقة والعالم (فنادق، مطاعم، محلات كبرى، شركات اتصالات، الخ) ما يساهم في زيادة الطلب عليها.
16) السحوبات من الصراف الآلي لا يجب أن تتم إلا بالعملة المحلية حتى ولو كان الحساب بالدولار أو بالين، فإجراءات السحب يقوم بها صاحب الحساب لأنه يقطن في دولة، وهذه الدولة لديها عملة محلية؛ مع العلم أن هذا الإجراء يخفض المضاربات وأي أسواق موازية لأن السحب يتم عبر سعر معترف به.
17) السعر عبر محلات الصرافة سعر رسمي معلن بشكل واضح للعيان وللمارة، ويجب إعطاء فاتورة بموجب أي عملية تتم داخل تلك المحال، التي عليها أيضاً أن تكون مرخصة من الجهات المعنية.
18) صرف مبلغ 200 مليون دولار لمؤسسة الإسكان المحدود الذي لا يتجاوز حجم القرض فيه مئة ألف دولار يساهم بشكل مباشر في دعم القطاع العقاري إلا أنه لا يسبب فجوة تضخمية، كما يساهم في دعم قطاع المفروشات والأدوات المنزلية وخلافه.
19) محاسبة المصارف التجارية التي تدخلت في المضاربات على العملة المحلية من خلال دولرة ودائعها وودائع زبائنها بفعل المنافسة في ما بينها وإعطاء فوائد مرتفعة وصلت الى 16% للودائع المتوسطة و20% على الودائع الكبرى، نتيجة الفروقات في أسعار الفوائد بين الليرة والدولار خصوصاً خلال العامين الماضيين.
20) تحويل سياسات إعطاء القروض من استهلاكية الى استثمارية، فقرض السيارة استهلاكي، وقرض 10 آلاف دولار يستخدم للسياحة الخارجية أو خلافه استهلاكي، وتحويل نسبة كبيرة إلى تمويل المشاريع الصغيرة، أو موجهة لشراء منتجات محلية، والمصارف التجارية يمكن لها القيام بتعاقدات وتعاون مع منتجين محليين في حقول ومجالات متنوعة.
هذه الإجراءات يمكن إعتمادها سريعاً وغير مكلفة نوعاً ما على الدولة التي نقطن بها، إلا أن إرتداداتها سريعة وفعالة.
* مستشار اقتصادي ورجل أعمال