انفجر الغضب الشعبي في طرابلس أمس على نحو لافت وغير مسبوق، وأعطى الحراك الذي شهدته شوارع عاصمة الشمال أمس أن لا سقوف أو ضوابط لأي تحرّك مقبل، بعدما كسر المحتجون كل "المحرّمات" السياسية التي ارتفعت في المدينة في السنوات الأخيرة. وأنذر الوضع الذي عاشته شوارع طرابلس وأحياؤها وساحاتها في الساعات الماضية بأن الآتي سيحمل الكثير من المفاجآت غير المنتظرة.فقد كشفت التحرّكات المطلبية التي شهدتها طرابلس أمس عن ولادة شارع لم يجد من يتبنّاه سياسياً أو شعبياً حتى الآن، صبّ جام غضبه على سياسيّي المدينة بلا استثناء. وأعطت إشارة لافتة إلى أن جميع القوى السياسية في المدينة، بلا استثناء، باتت في مأزق.
فالمحتجّون الذين جالوا في شوارع المدينة على دراجات نارية أو مشياً، لم يتركوا بيتاً من بيوت نواب المدينة أو مكاتبهم إلا تجمعوا بالقرب منها، وهم يطالبونهم بالخروج من السلطة. من النائب سمير الجسر، إلى النائب محمد كبارة، إلى النائب فيصل كرامي، لكن النصيب الأكبر من الهتافات المندّدة كان من نصيب الرئيسين سعد الحريري ونجيب ميقاتي، إلى رئيس الجمهورية ميشال عون، وكان بعض هذه الهتافات نابياً.
وإذا جرت العادة أن تشهد طرابلس خلال الاحتجاجات مواجهة شارع مقابل شارع، فإن شوارع طرابلس أمس خلت للمحتجّين، وغاب نهائياً أي مشهد لمناصري القوى والتيارات السياسية البارزة في المدينة عن المواجهة، برغم الشتائم والهتافات التي انهالت عليهم، بعدما كان أي انتقاد لأي نائب أو سياسي في المدينة يحدث توتراً يكاد يشعلها.
ولعل التعبير الأبرز عن الغضب الشعبي الذي عاشته طرابلس أمس تمثل في تفجير المحتجين غضبهم بتيار المستقبل ورموزه، بشكل لم تعرفه المدينة من قبل. فعندما كانت وفود المحتجين تصل تباعاً إلى ساحة عبد الحميد كرامي (ساحة النور)، كانت ترافقها هتافات إسقاط النظام والحكومة والسياسيين، وسط لافتات تشكو الأزمة الاقتصادية في المدينة، التي تعاني من بطالة وركود وفقر يزداد كل يوم. ولم تلبث أن توجّهت مجموعة من المحتجّين لقطع الطريق المؤدي إلى الساحة من جهة منطقة التل، لكن بعض أفراد هذه المجموعة صعدوا فجأة إلى عمود إنارة عند مدخل الساحة، عليه صورة كبيرة تجمع الرئيسين: الراحل رفيق الحريري والحالي سعد الحريري، والأمين العام لتيار المستقبل أحمد الحريري، فأنزلوها أرضاً وسط هتافات التكبير، ثم عمدوا الى إحراقها بعد دوسها بالأقدام. لكن من قاموا بهذا العمل لم يكتفوا بذلك، إنما صعد أحدهم إلى عمود الإنارة نفسه، وأنزل منه راية تيار المستقبل ورماها أرضاً، لتلقى المصير ذاته. ما حصل في طرابلس أمس، برأي أغلب المراقبين، كان مفاجئاً لكنه ليس عابراً. فهو عبّر بوضوح عن حجم الوضع المعيشي والحرمان الذي يعانيه معظم سكان المدينة الأفقر في الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، وفق دراسات سابقة للأمم المتحدة، وهي المدينة التي كان المحتجون أمام السفارة الكندية في بيروت قبل فترة طلباً للهجرة إلى كندا أغلبهم منها، وهي المدينة التي تقول معلومات إن أكثر من 7 آلاف شاب فيها تقدموا بطلبات هجرة إلى السفارات الأجنبية في بيروت، ولا يزالون ينتظرون الرد.
كذلك فإن ما جرى أمس شكّل إشارة إلى الأزمة الشعبية التي يعانيها التيار الأزرق في طرابلس، الذي بات اليوم بحاجة ماسّة إلى مراجعة نقدية لتجربته وطريقة تعامله مع المدينة أكثر من أي وقت مضى.