ثَمة «لبنانيون» يرتجفون ويهرعون من فورهم، قبل وعند كل إشارة من الخارج المعروف، إلى الإدلاء بكل ما يعرفونه ولا يعرفونه عن مواطنيهم. وثمة لبنانيون، أقوياء وذوو إرادة، واجهوا الأعداء وطردوا إسرائيل وصنعوا العزّة، وها هم اليوم ثابتون على الجبهات، عيونهم شاخصة وأيديهم على الزناد.حثيثاً يقترب البلد من الوقوع الذي تأخّر. ويمكن القول: إن السبب الذي حال، حتى اليوم، ويحول دون الانهيار هو الحرص البالغ من جانب القوى التي أخذت على عاتقها مَهمات التحريرين الأول والثاني. لكن الأرجح، وربطاً بما تكشّف ويتكشّف يومياً من فصول التآمر على المقاومة وشعبها، أن هذا الحرص العميق والامتناع عن الانجرار إلى ما قد ينال من مركزية الجهد المنصبّ على مواجهة المحتلّ، وتأجيل مواجهة امتداداته وأذرعه السرطانية في الداخل، كل ذلك قد وفّر وزيّن لعصابة الحكّام التافهين مواصلة تآمرهم، وأتاح لهم الاستمرار في النهب والسرقة وتدمير ما تبقّى من بنى الدولة. بل وصلت السفالة ببعضهم إلى حد العمل المباشر عند العدو وتقديم خدمات التجسّس وإفشاء أسرار البلد لهذا السفير أو لذاك الموفد... وفي السياق، وكما عمدوا، سابقاً، إلى تبرئة العملاء والقتلة وتسهيل عودتهم تحت ذرائع واهية لا تنطلي على عقل، ها هم يعمدون اليوم إلى المشاركة في المَهمة الأميركية - الإسرائيلية الهادفة إلى محاولة حصار المقاومة وخنقها.
حثيثاً، وحثيثاً جداً، يتقدم البلد نحو الهاوية التي تهيّئها سياسات مجرمة وإدارة سياسية تابعة وفاسدة ومخترقة.
واللافت أنه، ومع تعاظم الأزمة التي صنعتها أسماء بعينها، وهي، وحدها وقبل غيرها، من يتحمل مسؤولية ما وصل إليه البلد من عجز سياسي وضعف اقتصادي وتخلّع اجتماعي، نشهد غسلاً وضيعاً للأيدي ومحاولة تنصّل مستفزّ. فتنصّل أصحاب الأزمة الأصليين هذا، ينطوي في واحد من وجوهه البشعة، على الاستمرار في سياسة استغلال حرص المعنيين على الاستقرار العام وابتزازهم لمتابعة تمرير ما لا يُمرّر من سياسات أفقرت الناس، وشوّهت اجتماعهم وجعلته على قدر من الهشاشة غير المسبوقة حتى في أحلك أيام الحرب الأهلية. وقد آن أوان التراجع عن هذه العقود الفاوستية، لأن البديل سيكون مفتوحاً على مخاطر غير قليلة.
لقد كان من نتائج هذه السياسات أن فُتح البلد أمام اجتياح اللصوص والسارقين تحت لافتة القطاع الخاص، ومن ثم توطيد عُرى تحالفهم مع امتداداتهم من اللصوص الذين قفزوا إلى مواقع الحكم وسيطروا عليها، ثم جعلوا منها إقطاعات خاصة بهم وبأولادهم وصولاً إلى أحفاد لم يبصر بعضهم النور بعد.
ولأن دقّة الأوضاع الراهنة وحراجتها تهددان بالسقوط التام، ربما آن الأوان لتطلّب آخر. إذ بات المطلوب اليوم، ورغم ارتفاع الكلفة، دفع الخلافات والانقسامات وبلورتها في اتجاه أخذها إلى حدها الأقصى، وبشكل يفرض معه على المواطنين، كل المواطنين الانحياز إلى مصالحهم، التي تلزمهم الاختيار والتمييز بين نهج مَن دافع عن الحقوق ولم ينجح ونهج من سرقها ونجح من خلال سياسات شتى، كان في مقدمها وضع اليد على ما تبقّى من ممتلكات عامة.
إن تصعيد الخلاف وتظهيره سيساعدان في كشف أوراق اللاعبين كافة، وسيوضحان من دون شك طبيعة وهوية هذه الخلافات، بوصفها أكبر وأعظم من مجرد تباين في الأمزجة. بل سيكشفان جوهرية علاقتها بما هو حاسم من رؤى وخيارات سياسية واقتصادية واستراتيجية وأثرها على حاضر البلد ومستقبله.
مصالح المواطنين تُلزمهم الاختيار والتمييز بين نهج مَن دافع عن الحقوق ولم ينجح ونهج مَن سرقها ونجح


تدخل المواجهة مع العابث الاستعماري (الأميركي تحديداً) وصنائعه المحلية والإقليمية مرحلة جديدة ومتقدمة. والسعي المحموم إلى حصار البلد وخنقه بذريعة مواجهة المقاومة يفرض على الجميع إعادة النظر في برامج العمل وأشكال المواجهة المعتمدة. لذلك فإن التوافقات الداخلية، على أهميتها، يجب أن تنحصر، في واجب ومسؤولية التصدي الحاسم والمباشر للمخططات المعادية، وهذا لا يتم إلا بقرنها بمواجهة تطلّب صانعي الأزمة وهمّهم المحصور بتأمين المواقع والمناصب ومعها المكاسب، مهما تعارض ذلك مع واقع اهتزازات الأرض القادمة. فالمواقف الحاكمة لهذه الحفنة من الفاعلين تتّكئ حصراً على إرادة الحرب الأميركية البادئة، وهي غير معنية لا اليوم ولا غداً بالاتكاء على صلابة الموقف اللبناني الداخلي المطلوب تعميمُه. بل إنها تعمل وبدأب محموم على محاولة تقويض هذه الصلابة، من خلال الدور القذر الذي تتطوّع له سياسياً ومالياً وإعلامياً.
إن الهجمة الأميركية الجديدة وتمثّلاتها الأخيرة التي رافقت وتخللت زيارة «سفّاح المصارف» مارشال بيلنغسلي والتي بلغت صلفاً يُسأل عنه حكامنا «الأشاوس» الذين طأطأوا الرؤوس، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بضيق الهامش والقدرة الأميركية إيرانياً وفلسطينياً وسورياً وعراقياً... وبالتالي وأمام العجز الواضح والملموس فإنه لا أحسن من الساحة اللبنانية لإيهام النفس بالقوة وعرض العضلات بعيداً عن الساحة التي كسرتها وحولتها إلى رميم لا معنى له.
إن ما يعرضه الحكّام من فصول الذلّ المعلن، وما يقدمونه من استجابة تلقائية أو استباقية وتجاوب فوري مع الطلبات المشبوهة، مع ما ينطوي عليه من تخلّ فاضح وغير مسؤول بات يمثل استفزازاً، لم يعد مقبولاً، لأبسط المشاعر والأحاسيس الوطنية والأخلاقية.
إن أول واجبات الحكّام (النظرية أقلها) هو القيام بواجب الدفاع عن مواطنيهم وحماية أمنهم، وهو مبرّر وصولهم إلى المناصب وذريعته المعلنة، غير أن الواقع يقول: إن بعض هؤلاء هم على رأس من يتآمر.
إن ما يجب قوله وبوضوح تام يتلخص في واجب منع هؤلاء اللصوص والسارقين الذين امتهنوا البلد واستدعوا الاحتلالات، وجرّوا الوصايات وعمّقوا الأزمات من أن يفلتوا من العقاب الذي تأخر... وهذه مَهمة يجب أن تتصدر رأس قائمة المَهمات. إنها اللحظة التي تفرض على جميع الحريصين، ومن ضمنهم قوى اليسار اللبناني الغائبة الخروج من شرنقة الخلافات التافهة والانخراط الفعلي لا اللفظي في معركة تحرير البلد من سارقيه، وهي أولى من غيرها في قيادة هذه المعركة، التي تحتاج إلى أفعال مادية ملموسة (بعيداً عن صخب الشعارات البائدة) تكون لائقة بالإنجازات المصنوعة في ميادين المواجهة، وتقطع دابر اللصوص والمتاجرين بالناس وحقهم المقدّس في العيش الكريم.