عصيان القوانين الجائرة واجب الاحرارم. لوثر كينغ

يبدوا أننا دوماً على أهبة الإستعداد للدفاع عن شرف الذين استشهدوا، وعن رموز الثورة الذين ماتوا، وعن أسرى حُرّروا. لكن حين يأتي استحقاق الدفاع عن الأحياء من زملائنا ورفاقنا المظلومين والمهمشين، تصبح القضية مسألة فيها نظر قابلة للنقاش والاختلاف وتحتمل التأجيل والتأويل.
صدر في 17-7-2019 القرار رقم 2362 التابع للنظام الداخلي للإتحاد الوطني لطلاب الجامعة اللبنانية المعني بتنظيم الإنتخابات الجامعية. وفيه يُعرَّف «الناخب»، في الإنتخابات الطلابية، على أنه الطالب «لبناني الجنسية» المسجل ضمن المؤسسة الجامعية (المواد 1 و5 و6 من نص القرار)، ويستبعد عن الفعل الإنتخابي غير اللبنانيين صراحةً.
تسرق هذه البنود الثلاثة منّا المعنى السياسي لهويتنا الطلابية لتحولنا كطلاب إلى جماعات قومية سرعان ما ستلحق بها الحمى الطائفية. فالطالب، تاريخياً، كان إمّا بيدقا بيد السلطة ومنطقها أو متمرّداً عليها. هذا ما علّمتنا إياه الحركات الطلابية في أميركا اللاتينية ومدارس التربية الثورية، وهذا ما تعلمنا إياه حركة الطلاب المقرونة بحركة الحقوق المدنية ضدّ الفصل العنصري في نضالاتها الأيديولوجية ضدّ البنية الرأسمالية للرجل الأبيض، وضدّ حروب المنظومة التوسعية في العالم، وما تعلمنا إياه حركات المقاطعة التي قادها طلاب جنوب إفريقيا في القرن العشرين، وقبل ذلك الحركات الطلابية في فلسطين في القرن التاسع عشر، كل منها ضد سلطات الإستعمار الإحلالي، والأهم ضد أذناب الإستعمار من السلطات المحلية التبعية. وفي كل تلك النضالات، كان الطالب يُعرَّف بفعله النقيض للبنية المهيمنة. لذا كان لزاماً على الحركات الطلابية، أينما كانت، أن تنتج خطابا تناحرياً مع خطاب السلطة وأدوات قمعها الأمنية والقانونية. فقوانين السلطة وأنظمتها، بطبعها، تُبنى على حماية احتكارية صنع القرار من خلال منظومة فئوية متحجّرة. لذا ما انفكت الحركات التحررية تنادي بالعصيان الذي أثبت نفسه من بين الوسائل الأنجع لمواحهة المنطق السائد. العصيان من شأنه أن يدفع باتجاه تجاوز الوضع القائم نحو تأسيس لغة تبلور رأياً عاماً متحرراً من سطوة القوة الطائفية المهيمنة.
عطفا على هذا الإرث لا بد من أن نسأل أنفسنا اليوم، ما العمل؟ كيف لنا كطلاب، ضمن حركة تغييرية، أن نشارك في مهزلة تفكيكية أخرى تسعى إلى تغريب الحراك الطلابي عن سياقه السياسي والإجتماعي الأوسع، وتحويل مسعانا التنظيمي إلى معارضة مطبّعة مع قواعد اللعبة السياسية في الجامعة اللبنانية (الإحتكارية الطائفية)؟ هل نخطئ كما أخطأ من سبقنا من طلاب عندما رضخوا أمام هذه الإختزالية المخجلة بحجة العدد الضئيل «لغير اللبنانيين»؟
لقد وقع من سبقنا من المستقلين في شرك الوهم والإستيلاب. فظنوا أن بامكانهم دخول معركة الانتخابات ذات القانون النسبي المشوّه من دون أن يتم إحتواؤهم عبر جعلهم معارضة رمزية تزيد من زخم المسرحية السياسية ومن شرعية انتصارات أحزاب السلطة (المُعدّة سلفا). الوهم في أننا قادرون على نسج «تحالفات» والدخول في «مفاوضات» مع السّلطة، من دون أن نقع في شراك الإستيلاب الفكري الذي يؤدي بنا إلى مهزلة لغوية. فترانا نصف مساوماتنا بـ«الواقعية السياسية»، ونبرر إستكانتنا أمام التناقض المبدئي بعبارة «تعددية الآراء»، ونعلّل تخاذلنا عن نصرة مختلف الشرائح المجتمعية المنتهكة من قبل السلطة بحجة «ضرورات تكتيكية»... وهكذا. فشل من سبقنا في المواجهة، وأسفر عن رضوخهم اصدار قرار آخر بشروط عنصرية تستهزئ بمعنى وجودنا الطلابي كلبنانيين وفلسطينيين وسوريين. ألا تستوجب هذه الإهانة والإستهانة بماهيتنا، ردَّا واضحاً منا كمعارضة طلابية؟
أخشى أننا في حال فشلنا في الإجابة عن السؤال، فإن هذا سيؤشر الى ضبابية في الرؤية، وتلك لن تجلب إلا أفعالا هزيلة ولغة خائرة تهرول وراء إيجاد مكانة ضمن النظام القائم. وهذا بالذات ما تحتاجه السلطة واجهزتها وما تقتات عليه للحفاظ على خديعة ديمقراطيتها: «معارضة» تعجز عن اتخاذ موقف من الظلم الصارخ في هذه الدولة، وتتبنى لغة «التعايش المشترك» و«السلم الأهلي» التي أفرغها النظام الطائفي من مضمونها.
نحن أمام فرصة تصحيح عيب من سلفنا من زملاء. نحن كطلاب - مواطنين ولاجئين - أمام فرصة تاريخية لتغيير قواعد اللعبة التي رضخت لها «المعارضة» الطلابية في العقد الأول من القرن الجاري. وأهم استحقاقاتنا اليوم اتخاذ قرار مقاطعة هذه المهزلة الإنتخابية وتتويجها بعصيان هذا القرار وتعاريفه الدنيئة (المواد: 1-2-5-6) والمفرَغة (المواد:45-102-69-65). نحن أمام مفترق طرق، الأول يدعونا لأن نتهافت وراء هذه المكيدة الإنتخابية فإذا نلنا مقعدا كنا معارضة من دون هوية، وإن خسرنا كنا معارضة من دون موقف، وبين هذا وذاك نكون قد طبّعنا مع العنصرية ضاربين هويتنا الطلابية وأمانة غير اللبنانيين منا عرض الحائط. فالرضوخ لأحكام العنصرية هو الاعتراف بالمنطق السلطوي الفئوي.
تباعاً، ليس أمامنا سوى الطريق الثاني وهو مسلك المقاطعة الذي يحوّل المكيدة الإنتخابية إلى منبر لإعلاء خطابنا التغييري ومنطقنا التحرري، وتقديم نموذج جذري مشرّف يتتلمذ على يديه القادمون من الزملاء فيجدون فيه الخطاب البديل عن خطاب السلطة وأحزابها الطائفية.
حين تعيد مهزلة الإنتخابات هذه إنتاج البنية الطلابية الطائفية ذاتها، سنكون أمام حقبة تاريخية جديدة ينتقل فيها الصراع من صراع شكلي ضمن البنية القائمة، إلى صراع مبدئي بين جسد طلابي طائفي من جهة وفكر طلابي تحرري من جهة أخرى. حينها نستطيع إعلان مرحلة نضال قاعديّ من شأنه تغيير اللعبة العنصرية الطائفية الإحتكارية.
إن جامعتنا التي استُشهد لأجلها من سبقنا إلى الحركة الطلابية التحررية ما زالت منذ مطلع القرن الجاري أسيرة أنظمة وإجراءات عنصرية إقصائية. لذا يقع على عاتقنا بديهياً واجب أخلاقي في تحريرها من قواعد اللعبة القذرة للسلطة الفئوية ونظامها الطائفي. فلا سكوت عن اختزال معنى الطالب ولا انسياق مع السياسات التفكيكية ولا انصياع لأنصاف ديمقراطيات كاذبة.
* طالبة في الجامعة اللبنانية