مرة جديدة، تعود قصة إعادة تمويل سد بريصا (الضنية) - أو على الأصح قصة الهدر في تمويل السدود السطحية - لتذكّرنا بفضيحة إنشاء السدود غير الضرورية في لبنان.ومرة جديدة، تتكشّف تبعات غياب الاستراتيجيات اللازمة في كل القطاعات، بدل الخطط التي يضعها مستثمرون ومنتفعون لا همّ لهم سوى الحصول على حصة من كعكة الدراسات والإنشاءات… بغض النظر عن الحاجات الحقيقية، وعن الكلفة والهدر في المال العام، والانعكاسات السلبية على الطبيعة وعلى الجهات المستهدفة من هذه المشاريع.
هل يعتمد من طالب بثمانية ملايين دولار (إضافية على الكلفة الأساسية) لإغلاق الفراغات الطبيعية في أرض سد بريصا على «الفراغات» في ذاكرة المتابعين لهذا الملف، خصوصاً الجيولوجيين الذين حذروا من اللجوء الى خيار السدود السطحية فوق الصخور الكلسية المتشققة التي لا تحتمل تخزين المياه سطحياً؟ علماً بأن هؤلاء لم يحذّروا فحسب، بل أكدوا أن التشققات، مع ما لها من قدرات نفاذية عالية للمياه، هي نعمة لبلد تتغذى مياهه السطحية والجوفية من المتساقطات (من أمطار وثلوج) بفضل هذه التشققات التي تسمح بتسريب المياه الى الخزانات الجوفية. فكيف نسدّ هذه النعمة؟!
وقد طالت هذه التحذيرات كل الخطة العشرية قديماً، وكل مشاريع السدود في خطة عام 2010 التي أقرّها مجلس الوزراء آنذاك من دون دراسة أو مراجعة!
ما يحكى اليوم عن فضيحة سد بريصا الذي بدأ تنفيذه عام 2003 ولم يستطع أن يحفظ المياه، يمكن أن ينسحب على كل مشاريع السدود المقترحة لناحية اختيار أماكن غير ملائمة، خصوصاً تلك المخطط لها في الوديان أو السهول أو فوق كسور أرضية لها وظيفة طبيعية في تغذية المياه السطحية والجوفية، والتي يفترض، لو كانت هناك استراتيجية متكاملة، حمايتها وحسن إدارتها كبديل مضمون وآمن من السدود السطحية، بعد القيام بكل الإجراءات الاستراتيجية الموفرة في كل القطاعات، كوقف الهدر في شبكات النقل وضبط الاستخدامات في الزراعة والصناعة والسياحة وفي الاستخدامات المنزلية.
في التبريرات التي تساق لإنشاء السدود السطحية يجري الحديث عن التنمية وإنماء المناطق وفق مفاهيم تخطاها الزمن منذ وقت طويل، بعدما حلّت قضايا التنمية المستدامة بدل مشاريع التنمية. لا بل إن الدافع الوحيد وراء فكرة الاستدامة هو تصحيح ارتكابات فكرة «التنمية» التي استغلها كبار المستثمرين في الدول، وكبريات المؤسسات المالية المقرضة، وحققوا عبرها أرباحاً خيالية من دون أي نتيجة مفيدة للجهات المستهدفة منها. فماذا ينفع اهالي الضنية، على سبيل المثال، أو غيرها من المناطق الموعودة بسدود (كمشاريع إنمائية) إذا تم توفير مزيد من المياه (في حال جمعت السدود المياه قبل أن تتبخر وتتلوث)، وتم التخلي عن زراعات بعلية لصالح أخرى مروية، يتم استيراد بذورها وشتولها مع مبيداتها وأسمدتها الكيميائية بأكلاف عالية (لا تشكل كلفة تأمين المياه أكثر من 5% من أكلاف الزراعة)، ليتبين بعد ذلك أن لا امكانية لتصريف المنتجات؟ ومن قال إن المطلوب من الدولة تأمين السدود لإنماء المناطق، بدل الخطط المتكاملة التي تقوم على برامج للإرشاد، تربط بين تطوير الإنتاج من ضمن الموجود المتأقلم مع الطبيعة المناخية والجغرافية، ومع خطط للتسويق وتصريف الانتاج بشكل مباشر أو غير مباشر عبر بدائل متكاملة، مثل الحفظ أو التخزين أو التجفيف… في حال لم يتأمن التسويق (أو التسفير) المباشر. هذه الطرق المتكاملة للتنمية قد لا تحتاج الى مزيد من المياه، بقدر ما تحتاج الى ربطها بخطط تتعلق بقطاعات أخرى، كالنقل والتعليم والطبابة وتأمين الحاجات اللامركزية الاساسية. وقد كان بالامكان، بدل المبالغ المطلوبة لتصحيح أخطاء وصفقات السدود الفاشلة، صرف أقل من نصفها على مشاريع إنمائية حقيقية، وعلى بدائل، بكلفة أقل بالطبع، لسد الحاجة الى المياه، كاللجوء الى الآبار الجوفية (في حال وجود حاجات قصوى) ومساعدة المزارعين في تحديث طرق الري (استخدام النقّاطات على سبيل المثال) أو إنشاء الخزانات الصغيرة، أو تجميع مياه الأمطار، أو تبديل أنواع الزراعات… الخ وكلها بدائل وإجراءات أقل كلفة وأكثر جدوى من إنشاء السدود.
ألم نتعلم من فضيحة سد بريصا (سبقتها فضيحة سد القيسماني الذي تم تغليفه بكلفة إضافية بعد الإنشاء، وسد بقعاته الذي لم يجمع المياه أيضاً وسيكلف تغليفه 14 مليون دولار ككلفة اضافية)، وما سيليها من فضائح، أن علينا بدل زيادة التمويل لسد فراغات وتشققات الطبيعة، أن نسد الفراغات في العقول التي تخطط بعكس الطبيعة وقوانينها وتصرّ على أن تضع المياه في السلة، لادعاء تحقيق مشاريع التنمية الفارغة؟