القرار الاتهامي الجديد الذي صدر، اول من أمس، عن المدعي العام الدولي في المحكمة الخاصة بلبنان في القضايا المرتبطة بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري استهدف، فعلياً، القائد الشهيد في حزب الله السيّد مصطفى بدر الدين الذي أصيب دفاعاً عن بيروت اثناء الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 واستشهد في سوريا عام 2016. فالمدعي العام الدولي نورمان فاريل ذكر اسم القائد العسكري في المقاومة الإسلامية 68 مرة في نصّ القرار، مدّعياً أن المتهم سليم عيّاش كان قد نسّق جرائم الاغتيال معه عبر الهاتف الخليوي. لكن فاريل لم يوجّه الاتهام القضائي الفعلي لبدر الدين لأن القانون لا يسمح بمحاكمة شخص لم يعد على قيد الحياة. وبما ان المحكمة الخاصة بلبنان كانت قد استغنت عن خدمات المحامي أنطوان قرقماز بعد استشهاد بدر الدين، فلا مجال للاعتراض على استمرار المدعي العام بسعيه لتجريم شخص من دون منحه فرصة الدفاع عن نفسه وعن حقوقه ومصالحه. بكل بساطة، يستغلّ المدعي العام الدولي النظام «الخاص» للمحكمة «الخاصة» للتشهير بشخص لبناني متوفّ، بعدما حصلت هذه المحكمة على التمويل بملايين الدولارات من خزينة الدولة اللبنانية. فبند تمويل المحكمة الخاصة بلبنان بات من بنود قانون الموازنة العامة للدولة، وقد سدد لبنان حتى اليوم أكثر من 700 مليون دولار من مصاريف هذه المحكمة، وهو مبلغ يفوق بأضعاف كل ما يُنفق على تأمين حقوق الناس في المحاكمة العادلة في الدوائر القضائية المحلّية.القرار الاتهامي الجديد الذي نشرته دوائر المحكمة الخاصة أخيراً يستدعي بعض الملاحظات:
1- لا إشارة الى الدوافع الجنائية للجرائم الثلاث في القرار الاتهامي. وقد يكون المدعي العام تجنّب ذلك لأن العناصر المتوفرة لديه لا تسمح بحسم الأسباب التي دفعت، بحسب مزاعمه، المتهمين الى السعي لاغتيال وزيرين وزعيم سياسي يساري. مرّت أكثر من عشر سنوات من التحقيقات الدولية بكلفة مالية باهظة، ولا يوجد أي تحديد للدوافع الجنائية. لكن كيف يمكن ان يكتمل المسار العادل للمحاكمة وكيف يمكن حسم الحقائق من دون معرفة الأسباب؟ قد يتطلب الجواب على هذا السؤال تسديد الدولة ملايين إضافية الى المحكمة في لاهاي خلال السنوات المقبلة.
2- ان القرار الاتهامي في القضايا الثلاث المرتبطة يتهم أحد المتهمين الأربعة بالضلوع بجريمة اغتيال الرئيس الحريري ولا يأتي حتى على ذكر الثلاثة الآخرين. صحيح ان المدعي العام لم يكن قد ادعى ان المتهمين حسين عنيسي وأسد صبرا كانا ضمن شبكات الاتصال التي زعم انها استخدمت في الهجمات الثلات، غير ان المتهم حسن مرعي كان، بحسب المدعي العام، ضمن شبكة الاتصالات المزعومة. ورغم ذلك لم يرد اسمه في القرار. وقد يدلّ هذا إما الى سعي الى تبرئة بعض المتهمين في جريمة اغتيال الحريري لمنح المحكمة الخاصة بعض المصداقية الإعلامية كما حصل بعد قرار قاضي الاجراءات التمهيدية بفكّ احتجاز الضباط الأمنيين عام 2009؛ أو الى تجاذب بين المدعي العام وقاضي الاجراءات التمهيدية الذي كان قد رفض التصديق على قرارات اتهامية سابقة عرضت عليه؛ أو، بكل بساطة، الى تأجيل اصدار قرارات اتهامية إضافية في الهجمات الثلاث قد تستهدف مرعي وعنيسي وصبرا في المستقبل القريب.
3- ان قاضي الاجراءات التمهيدية دنيال فرانسين الذي صدّق على القرار الاتهامي أكّد ان الأدلة الجنائية التي قدمها له المدعي العام ليست كافية لإثبات قيام السيد سليم عياش بتفجير العبوة التي استهدفت الوزير مروان حمادة (بحسب الفقرة 61، الصفحة 31 من تقرير القاضي) ولا بتفجير العبوة التي استهدفت الشهيد جورج حاوي (بحسب الفقرة 72، الصفحة 36) ولا بتفجير العبوة التي استهدفت الوزير الياس المرّ (بحسب الفقرة 83، الصفحة 42). بل اكتفى بالزعم أن عياش نسّق الهجمات الثلاث والتحضيرات التي سبقتها معتمداً بشكل حصري على تحليلات لداتا الاتصالات. ولا بدّ من الإشارة، هنا، الى ان القاضي فرانسين أوضح في تقريره ان الأدلة لا تتضمن مضمون الاتصالات الهاتفية بل مجرّد تحليلات لحركتها استناداً الى داتا مسحوبة من محطات ارسال خاصة بشركات الخليوي.
4- «الدليل» الحصري الذي قدمه المدعي العام في القرار الاتهامي مبني على تحليل داتا الاتصالات. فمن خلال هذا التحليل تمّ تحديد الادعاء العام للمتّهم ومعرفة تحركاته بينما وردت في تقرير قاضي الاجراءات التمهيدية معلومات تجعل تلك الخلاصات عرضة للشكّ، وأهمها: أولاً قوله ان نتائج تحليل داتا الاتصالات تقتصر على تحديد المكان «التقريبي» لوجود الهاتف الخليوي المستخدم (الصفحة 19).
القرار استهدف، فعلياً، الشهيد مصطفى بدر الدين الذي ورد اسمه 68 مرة في النص

وبالتالي لا يمكن حسم وجود الهاتف في مكان محدد، وقد تصل مساحة دائرة وجود الهاتف الى أكثر من 100 متر. ثانياً ان جميع الخطوط الهاتفية التي زعم انها مستخدمة في المراقبة او في تنفيذ الهجمات ليست مسجلة بأسماء أي من المتهمين. ثالثاً لا توجد أي ضمانات بعدم تعرض داتا الاتصالات الى أي تلاعب، إذ انها لم تكن تخضع لنظام حماية محكم قبل حصول المحققين عليها وربما بعد ذلك. على أي حال، يقول القاضي فرانسين في تقريره ان بعض تقارير خبراء الاتصالات الذين اعتمدهم المدعي العام «تتضمن معلومات تتخطى الإطار التحليلي للمعطيات التلفونية واختصاص هؤلاء الأشخاص (الخبراء)» (الفقرة 34 الصفحة 21).
5- يدعي قاضي الاجراءات التمهيدية ان المعطيات التي قدمها المدعي العام كافية للحسم بأن عياش من داعمي حزب الله. ورغم ورود قسم كامل من تقريره عرضت فيه المعطيات التي قدمها المدعي العام للقاضي، فلا إشارة لأي معلومة أو حتى تلميح عن أي علاقة تربط عياش بحزب الله.
6- أخيراً لا بد من لفت الانتباه الى ان قاضي الاجراءات التمهيدية يوافق المدعي العام في توصيف جريمة اغتيال حاوي ومحاولتي اغتيال حمادة والمرّ كجرائم إرهابية، وذلك بسبب وجود عبوات متفجرة «تهدف الى احداث حالة هلع» بين الناس، لكن المدعي العام لم يقدّم أي دليل فعلي عن حصول «حالة هلع» بسبب العبوات الثلاث التي بدت وكأنها صممت لاستهداف محدد وفي إطار جغرافي ضيّق. ويمكن، مثلاً، ان يلاحظ ان المواطنين والمواطنات لم تبدو عليهم «حالة هلع» على طول الكورنيش القريب من مكان وقوع الهجوم الذي استهدف حمادة مثلاً، ولم تتوقف حركة المرور مثلاً في محلة الكولا القريبة من مكان اغتيال حاوي. هذا لا يخفف من هول الجرائم الثلاث ولا يستدعي أي استخفاف بملاحقة مرتكبي الجريمة الحقيقيين، أياً كانوا، لكن توصيفها بالإرهابية يعني ان كل العبوات الناسفة التي استخدمت في لبنان إرهابية ولا بد ان تدخل في اختصاص هذه المحكمة «الخاصة بلبنان»، او أي محكمة أخرى. ولا بد من ملاحقة كل من كان ضالعاً بتحضير ووضع العبوات المتفجرة خلال الفترة السابقة أيا كان. هذا اذا اردنا فعلاً احقاق الحق، اما اذا اردنا المحاكمات المسرحية والاستعراضات السياسية فلنستمر بدفع اكثر من 70 مليون دولار سنوياً.