خلال ساعتين من الحديث إليه، تطرّق جورج مرّة واحدة لـ «موس» الحلاقة. الرجل حلّاق «بالإسم» مع أنه يعمل في «المصلحة» منذ أكثر من نصف قرن، وقد ورثها عن والده الذي كان حلاقاً لضباط الانتداب الفرنسي. الصور والفواتير والدفاتر التي باتت صفراء اللون شاهدة على ذلك. بذاكرته المتينة وحماسته المطلقة يروي الأحداث التي غيّرت بيروت والمنطقة... بإسهاب «مستفزّ». يبدو جورج شغوفاً بالسياسة والتاريخ أكثر منه بتصفيف الشعر وتشذيب اللحى.لا شكّ أن جورج طانيوس القسّيس (مواليد 1946) رجل غريق الماضي. يحيط نفسه بالصور والألبومات، كمن «يكمش» ذاكرة لا يودّها أن تفلت من يديه. وحدته جعلته متنسّكاً لذكرى والديه وللمحل الذي ورثه. يعيش بين كرسيي الحلاقة القديمين العائدين الى أيام والده، مثل كلّ شيء قديم في المحل. الرفوف المغبرّة تملؤها حلى وأساور كان يجد من يشتريها سابقاً، فيما تغطّي الواجهة صور «صديقه» رئيس البلدية (سن الفيل) كما يقول. جوارير المحل محشوّة، بعبثيّة، بصور وفواتير بعضها مختوم بطوابع من صنف القرش الواحد. أثمن مقتنياته دفتر حساب يحمل خط والده، ويعود لأيام كان «أبو جورج» يملك فيها محلاً على طريق الشام، قبالة مبنى الجامعة اليسوعية، لجهة رأس النبع. «إيجاره 14 ليرة على 3 أشهر، وكان الآباء اليسوعيون يحلقون لديه. حالياً ارتفع مكان المحل برج سكني». يقرأ في الدفتر بالفرنسيّة، مع بعض الإيضاحات: «الكومندان دو لا سال شعر ولحية، أجيدان شيف لو فاني، ميسيو بالو الذي كان مدير البور، الخواجة اسكندر نقاش، الخواجة نصري البرنس وهو وجيه وصاحب أملاك... كانت الحلاقة بربع ليرة ومع قص الشعر بليرة». يسأل: ما الذي يمكن ملاحظته من جردة الحساب؟ ويجيب بنفسه: «كانوا يحلقون لحاهم كل يوم أو يومين، اليوم يرخيها الشباب على الموضة، وهذا ما جعل المهنة تتراجع». في الدفتر أيضاً فاتورة بليار روسيّ الصنع، كتب عليها «دُفع سعره نقداً وقدره 175 ليرة لبناني سوري». إضافة إلى ترخيص للبليار من بلدية بيروت «رسمه للبلدية 433 قرشا». يعلّق جورج: «اشتراه والدي ليتسلّى طلاب الجامعة قبل قص شعرهم». بتصفّح الدفتر يبدي جورج ملاحظة مهمة: «كان والدي يهتم بحواجب نساء الضباط، وكان يستخدم الموس لتحديدها، ويبيعهن البودرة من نوع ليليان».
شغفه بالسياسة والتاريخ والحروب أكبر من شغفه بتصفيف الشعر وتشذيب اللحى


في تلك الفترة كانت العائلة تسكن في فرن الشباك، «في حيّ المدور الذي حمل اسم قائد الدرك الياس بك المدور، بالقرب من تيرو القماطي، وهو نادٍ لصيد الحمام كان يأتي إليه المراهنون يوم الأحد للتعويض عن خسارتهم في ميدان سباق الخيل». يتحدّث عن جارته الفنانة نور الهدى «واسمها الحقيقي ألكسندرا بدران، كانت تهرب بعمر الـ12 إلى صالة الباريزيانا في ساحة البرج للتدرب على الغناء». لاحقاً، «اشترى أهلي الأرض هنا في سن الفيل في 1954. كان الدراع بست ليرات وربع، أما المنطقة المقابلة عند أوتيل الحبتور فكان الدراع فيها بـ40 قرشاً ولا أحد يشتريه، كانت منطقة واوية وضباع!». يضحك لاختلاف المشهد، ويتابع «بنى أهلي بيتاً على الأرض التي اشتروها، وجعلوا جزءاً منه دكاناً، في الحقيقة هما دكانان: الذي أعمل فيه والآخر أجّرته لكوافيرة نسائية». لكن والده ظلّ يعمل في محل الطبيّة لسنوات قبل الانتقال إلى سنّ الفيل. «كان يبقيني فوق يديه ثم ننزل إلى ساحة البرج مشياً لنجد سيارة أجرة تقلّنا إلى سن الفيل». لاحقاً، «اضطر والدي إلى ترك محلّه في الطبيّة خلال أحداث الـ59، مع أنه كان يحتمي بالدرك إذ كان إلى جانب دكانه قائد موقع بيروت عبد القادر شهاب، شقيق مدير عام وزارة الداخلية المير عبد العزيز شهاب الذي كان أقوى من وزير... وكانا يقصّان عنده». يبرز الرخصة التي نالها والده لمحل سنّ الفيل من قائمقامية المتن، مع الوصل بالتصريح وسجّل المعاينة الصحية لأرباب الحرف من مصلحة الصحّة في بلدية بيروت وتواقيع الأطباء وعدد المعاينات... «هذا على أيام كان في دولة». تحزّ في قلبه وفاة والدته إيزابيل بعد أشهر من انتقالهم إلى سكنهم الجديد في سن الفيل، «ماتت عن عمر 41 سنة، هذه صورتها قبل 4 أشهر من وفاتها مع والدي وشقيقاتي الثلاث وأنا. لدى وفاتها أقفل والدي المحل ثلاثة أشهر. وعاش من بعدها 30 عاماً بلا زواج (توفّي عام 1978). منها تعلّمت الفرنسية إذ كانت تلميذة اللعازرية، وهذا خطّها المنمّق بالفرنسية على صورة لمناسبة قربانتي الأولى».
قلّما يخطئ جورج بتاريخ إحدى الثورات أو المعارك أو المؤتمرات الدولية، بل يربط سيرته المهنية بها. فهو مثلاً نال «السيرتيفيكا» عام 1959 ليبدأ العمل في محل خاله للمجوهرات «في آخر سوق الطويلة، عند أول شارع طرابلس». مما يبرّر معرفته الواسعة بالساحة وبيروت القديمة وأبرز مطاعمها وصالات السينما فيها. سيرة الرجل هي نبذة عن مدينة غيّرت معالمها الحرب، وطرَدت العاملين في أسواقها القديمة، ورَفعت الأبراج مكان محلّاتهم العتيقة. يُبرز بطاقة الاستخدام المحرّرة من وزارة العمل والشؤون الاجتماعية وفيها معلومات هويّته الكاملة «هذه أيام ساد القانون، حتى المبلغ الذي سيدفعه لي خالي محدّد فيها: 27 ليرة ونصف أسبوعياً». كان خاله يشتري الذهب من سوق الصاغة «على البرج حد سوق أبو النصر، الغرام بـ285 غرش، ونبيعه بـ3 ليرات، وكيلو الذهب بـ3 آلاف ليرة». يروي بفخر كيف سلّمه خاله وهو بعمر صغير، إدارة الفرع الثاني لمحلّه «بشارع طرابلس يلي سمّاه الحريري الزيتونة! وكان لديه فرعٌ ثالث في عاليه، كنا نصعد إليه بالسرفيس من ساحة البرج بليرة واحدة. كانت سيارات الأجرة من أفضل الطرازات الأميركية تركن في الساحة، من دودج وكاديلاك وسواها». ولأن سيرته مرتّبة في ذهنه ربطاً بالحوادث التاريخية، يقول «بقيتُ أعمل لدى خالي حتى 1967، عندما خسر عبد الناصر الحرب، وجئت لأساعد والدي في محلّه في سن الفيل».
ليست كلّ ذكرياته جيّدة في محله على مدخل شارع فرعيّ (نزلة جسر الواطي) في سن الفيل ومنزله الملاصق له... فقد أحرقَتهما المعارك ثلاث مرات، ودمّرت أجزاءَ منهما. يُخرج من ألبوماته العديدة، صورةً التُقطت للمحل قبل نيسان 1978، أي قبل أن تلحق به النيران. يروي بالتفاصيل، «المملّة» أحياناً، عن الهدنة التي استمرّت «من 2 تموز 1976 عندما دخلت قوات الردع المنطقة، كان أفراد الجيش السوري يلعبون معنا كرة القدم في الملعب مكان القصر البلدي الحالي. لم يحدث شيء. دام ذلك حتى صيف 1978. اختلف شمعون مع السوريين. حوصرت كتيبة للجيش السوري في محلة الفوروم، بالتزامن مع تهجير عرب المسلخ، وُضع كمين لكتيبة دعم أخرى هنا على الطريق العام. فُتحت الجبهة بين الجيش السوري والأحرار وحراس الأرز، وعندما اتُّفق على وقف إطلاق النار نهاية أيلول... كان يُفترض بالمتحاربين إفراغ ذخيرتهم فسقطت قذيفة أحرقت المنزل والمحل». في المرة الثانية، «تهبّط البيت والحيطان، وكان ذلك من جراء تفجير شاحنة غاز مفخخة في شارع مار الياس عام 1985، وقتها رُفع 75 نعشاً في ساحة الكنيسة». أما الثالثة، «فتزامنت مع حرب الإلغاء بين الجنرال ميشال عون والقوات، كان مركز القيادة للجيش في قصر نورا وكانت متاريس القوات هنا بالقرب من محلي على مدخل الشارع، بتبادل القذائف يقع كل فترة لوح زجاج... في المرة الأخيرة، انفجرت 5 ألغام في المتراس وراح المحل! لاحقاً راقت، عملوا الطايف وأكلوا القطايف!».
لا يكتفي جورج الحلاق بسرد نقاط التمركز والإشراف العسكري خلال المعارك الداخليّة، بل يعرّج على اتفاق الكتائب والنجّادة للتظاهر ضد الانتداب، حكم الشاه في إيران، كامب ديفيد، أنور السادات، جيمي كارتر... كما اغتيال جون كينيدي «ليلة عيد الاستقلال، ذُكر الخبر وأنا أشاهد كميل منسّى عبر تلفزيون لبنان». الرجل ذاكرة حيّة، لكن وحيدة. جورج الحلاق واحد ممن سكنتهم الحرب والسياسة إلى درجة نسيان النفس. مصلحة الحلاقة «لم تعد مربحة كما كانت على أيام الوالد، بالكاد يمرّ زبون في اليوم، أساساً لا أفتح كلّ الأيام إذ لدي بعض الزبائن من العتاق خارجاً». هذا كلّه لا يهمّه. ما يهمّه فعلاً هو تصوير كل «وثيقة» يملكها، كمن وجد فرصة للحديث عن مسيرة طويلة لم يكتشفها أحد.