بعد اتفاق الطائف والتعديلات الدستورية التي تلته، صار الوزراء آلهة. لكن معالم تلك «الألوهة» كانت قد رسمت منذ عام 1959، وتحديداً منذ إقرار المرسومين الاشتراعيين الرقم 111/59 و112/59 (نظام الموظفين). في الأول، حُدّدت العلاقة بين الوزير والمدير العام، فكان المدير العام «الرئيس المباشر، تحت سلطة الوزير وفي نطاق القوانين والأنظمة، لجميع الدوائر وجميع الموظفين التابعين له». وفي الثاني، حُدّدت واجبات الموظف، بحيث «يخضع لرئيسه المباشر وينفّذ أوامره وتعليماته». في المادة 14 من هذا المرسوم تشريع واضح لمخالفة القانون. فهي تشير إلى أنه «إذا كانت هذه الأوامر والتعليمات مخالفة للقانون بصورة صريحة واضحة، فعلى الموظف أن يلفت نظر رئيسه خطياً إلى المخالفة الخاصة، ولا يلزم بتنفيذ هذه الأوامر والتعليمات، إلا إذا أكدها الرئيس خطياً، وله أن يُرسل نسخاً عن المراسلات إلى إدارة التفتيش المركزي».يوضح مدير عام حالي أن أقصى ما يمكنه أن يفعله في حال تلقّيه أوامر مخالفة للقانون هو عدم «التأشير» (وضع إشارة بموافقته) على المعاملة ولفت نظر رئيسه إلى المخالفة خطياً، ومن ثم تنفيذها إذا أصرّ عليها الوزير. يقول المصدر إن الموظف لا يحق له عدم التنفيذ، وإلا يكون مخالفاً للقانون. أما بالنسبة إلى مسألة إعطائه حق إبلاغ التفتيش المركزي، فلا يراه المصدر سوى لزوم ما لا يلزم، لأن عدم إلزامه بإبلاغ التفتيش يعني أنه سيكون مضطراً إلى قياس الأضرار والفوائد قبل إبلاغ الهيئة. فهل يكتفي برفع مسؤوليته عن المخالفة المرتكبة، تاركاً خطاً للرجعة في العلاقة مع رئيسه، أم يبلغ التفتيش فيفتح جبهة معه؟ المديرون العامون، غالباً ما يختارون الخيار الأول أيضاً، وخاصة مع إدراكهم أن لا صلاحية للتفتيش بملاحقة رئيسه المباشر، أي الوزير، أو حتى بلفت نظره إلى المخالفة، بخلاف الصلاحية المتعلقة بمحاسبة الموظفين. صحيح أن الهيئة يحق لها مخاطبة رئاسة الحكومة لإعلامها بهذه المخالفة، وهي تفعل ذلك أحياناً، لكن درجت العادة على إقفال أي ملف يكون الوزير طرفاً فيه «لعدم الصلاحية».

مفتاح الحل
رغم ذلك، أصدر «التفتيش المركزي» في 22 شباط الماضي تعميماً (4/2019) سعى فيه إلى الحد من الأضرار، إذ طلب من الإدارات والبلديات والمؤسسات العامة إيداعه «من الآن وصاعداً أي معاملة تتضمن إصراراً وتأكيداً على تنفيذ المرؤوس تعليمات رئيسه ليُصار إلى درسها». تلك خطوة أريد لها أن تُخفّف الحرج عن الموظفين، إذ إن «من أسباب إحجام الموظف عن تطبيق ما تضمنته المادة 14 من نظام الموظفين، إما الخوف من سطوة رئيسه الذي يعتبر أن لفت النظر الخطي يشكل تعدياً على صلاحياته أو انتقاصاً من هيبته، وإما بسبب الجهل بالقوانين والأنظمة المرعية الإجراء. كذلك أشار التعميم إلى أن تطبيق هذه المادة يختلف من موظف إلى آخر، ولا سيما في القضايا التي يكون فيها الرئيس ممن لا يخضعون لصلاحيات التفتيش المركزي (الوزير)، وأن غالبيتهم يعتبرون قضية لفت النظر من الأمور الشكلية البحت، بحيث لا يكلفون أنفسهم عناء وصفها أو كيفية حصولها أو تبيان أهميتها، كما أن بعضهم الآخر قد وصلت به الحال إلى حدّ يبدو معه أنه هو الذي يستدرج رئيسه إلى تغطية مثل هذه المخالفات بأوامر لا تطالها المسؤولية المسلكية.
«المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء» تشريع سياسي للفساد


ذلك أمر واقع يدركه كل من يعمل في الإدارة العامة. لكن مع ذلك، يبدو المعنيون واثقين من أن كل الإجراءات التي نفذت أو التي تنفذ، منذ قرار مجلس الوزراء الصادر في عام 1989، الذي يطلب فيه من الوزير الحصول على موافقة المجلس قبل أي إصرار وتأكيد، لن تكون كافية لمنع الوزير من أن يمرح ويسرح في وزارته متصرفاً بالمال العام كما يحلو له. صحيح أنه من حيث المبدأ، ليس فوق القانون، لكن بالنتيجة تحولت النصوص القانونية إلى حصانة سياسية للوزير تسمح له بمخالفة القوانين، واثقاً من أنه لن يتعرض للملاحقة. فهو لا يخضع في أداء وظيفته لأي من الأجهزة الرقابية، كما لا يخضع للمحاكم الجزائية حتى لو ارتكب جرماً لا يتعلق بأداء وظيفته (كالرشوة أو استغلال منصبه لمنافع خاصة)، بل يخضع للمجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، المؤلف من 7 نواب و8 قضاة من الأعلى رتبة، والذي يتخذ قراراته بأغلبية الثلثين. حتى الاتهام، تمهيداً للإحالة على المجلس الأعلى، يتطلب موافقة ثلثي أعضاء مجلس النواب، وهذا يعني أن مجرد إحالة وزير إلى التحقيق، يتطلب توافقاً سياسياً نادراً يشبه التوافق على انتخاب رئيس الجمهورية، ما يؤدي واقعياً إلى إحباط أي محاولة لمحاسبة وزير مرتكب.
لا يؤيد رئيس التفتيش المركزي جورج عطية إلغاء مبدأ الإصرار والتأكيد بالمطلق أو تجميد المعاملات الإدارية إلى حين الاحتكام إلى مرجع قضائي أو إداري «لأن ذلك يمكن أن يشلّ الإدارة». وهو إذ يعتبر أنه لا بد من أن يكون هناك من يستطيع أن يحسم في الأمور الإدارية، إلا أنه يؤكد، في المقابل، أن مفتاح الحل يكون بتعديل القوانين بما يسمح بتحمل الوزير مسؤولية أعماله الإدارية.

تجارب متعددة
ليس كل الوزراء يعتمدون على الإصرار والتأكيد منهجاً. بعضهم، كما كان يحكى عن الرئيس فؤاد السنيورة، على سبيل المثال، لم يحتج يوماً إلى ذلك. ثقته بأنه الآمر الناهي في الوزارة جعلته يتخطى كل الإجراءات الإدارية أو التراتبية الإدارية، مخاطباً الإدارات المعنية بشكل مباشر. وزراء آخرون يتباهون بأنهم لم يلجأوا يوماً إلى الإصرار والتأكيد، لكنهم في المقابل لا يتوانون عن تركيب الصفقات والسطو على المال العام. هذا يعني أن الإصرار والتأكيد ليس سوى الجزء المقونن من المشكلة. من عايش المدير العام للاستثمار والصيانة في وزارة الاتصالات عبد المنعم يوسف، يدرك أن الإصرار والتأكيد لم يكن يعني له شيئاً. بالنسبة إليه، لم يكن وارداً تنفيذ أي قرار ما لم يكن مقتنعاً به. ولذلك، حتى عندما كان يرسل الوزير له إصراراً وتأكيداً، لم يكن ينفذ الطلب، بل يحوّله إلى رئاسة مجلس الوزراء، مع نسخة إلى الوزير، لبتّه. يذكّر يوسف بأن رئاسة الحكومة أبطلت أكثر من قرار للوزير لمخالفته القانون.

حرب وعطيّة: لإعادة النظر في حصانة الوزراء


لا شك في أن شخصية المدير العام أو الوزير لها تأثير مباشر في كيفية تطبيق القانون. وإذا كان بعض المديرين يعتبرون أنه ما دام القانون في صف الوزير، فإن عليه أن يلتزم بحدود النص إلى حين تغييره، فإن المديرة العامة لوزارة الاقتصاد عليا عباس لها رأي آخر. صحيح أن عباس تؤكد أنه لم يحصل أن أرسل لها أي وزير إصراراً على تنفيذ أمر مخالف للقانون، إلا أنها تجزم بأنه إن حصل ذلك، «فسأستقيل ولا أنفذ أمراً مخالفاً للقانون».
المدير السابق للاستثمار في وزارة الطاقة غسان بيضون قضى سنواته الأخيرة في الإدارة، قبل تقاعده، على خصام علني مع الوزراء المتعاقبين. عندما تُحال معاملة إليه، ويعتبرها مخالفة للقانون، يبدي مطالعته القانونية عليها ويرفقها بها، ثم يحوّلها إلى الوزير، وكذلك إلى المراجع المختصة، بحسب طبيعة المعاملة (التفتيش المركزي، مجلس الخدمة المدنية، ديوان المحاسبة). بالنتيجة، كان بيضون يدرك أن الأجهزة الرقابية لن تحرّك ساكناً بحجة عدم الاختصاص، لكن بالنسبة إليه لم يكن ممكناً «التأشير» على أي معاملة غير قانونية أو الموافقة على تنفيذ الإصرار والتأكيد من دون إعلام الجهات المختصة.

تشريع للفساد
كل الوزراء يتعاملون مع الواقع كما هو. معظمهم «يتفرعن» في وزارته مستفيداً من حصانة سياسية تزيد من زخم الحصانة القانونية، التي يفترض أن تكون محدودة بالأعمال المتعلقة بالوظيفة. تجربة حبس الوزير السابق شاهيه برصوميان، على سبيل المثال، أتت لتزيد من حصانة الوزراء. فبعدما صدر قرار باعتبار أعمال الوزير خارج مهمته تخضع للمحاكمة العادية، أصدرت محكمة الجنايات قراراً بعدم النظر في قضية الرشوة التي اتهم بها برصوميان لعدم الصلاحية، فانتهت القضية عندما عرضت على مجلس النواب للنظر في إحالتها إلى المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء. عندها كان من الصعب تأمين أكثرية الثلثين.
من خلال تجربته الطويلة في العمل النيابي والوزاري، يرى الوزير السابق بطرس حرب أن النصوص القانونية المرعية تؤدي إلى حماية الفساد والفاسدين، ولا تؤدي أبداً إلى محاكمة المرتكبين. ولهذا لا حل، بالنسبة إليه، سوى بإعادة النظر فيها والسماح بملاحقة الوزراء بطرق أقل تعقيداً، لأن أي أمر آخر ليس سوى تشريع سياسي لاستمرار الفساد.
الأمر نفسه يؤكده رئيس التفتيش المركزي جورج عطيّة، الذي يدعو إلى الفصل بين المساءلة السياسية للوزير ومساءلته الإدارية. في عمله السياسي، قد يكون له الحق بالحصانة، لكن عندما يتعلق الأمر بتوقيعه على معاملات إدارية فلا يمكن أن يعفى من المسؤولية عن توقيعه. وأكثر من ذلك، يقول عطية إن مكافحة الفساد تبدأ عند احترام القرارات الإدارية وإلغاء مبدأ القرارات الاستثنائية.



قرار لم ينفّذ يوماً
صحيح أن «الإصرار والتأكيد» ليسا العنوان الوحيد للفساد ولمخالفة الوزراء للقوانين، إلا أن محاولة رسمية خجولة، وربما وحيدة، جرت منذ عشرات السنين في محاولة للجم ميل الوزراء إلى المخالفات من دون جدوى. فقد أصدر مجلس الوزراء في 27 كانون الأول 1989 قراراً طلب بموجبه من الوزراء «عدم التأكيد والإصرار على تنفيذ الأوامر والتعليمات التي يلفت مرؤوسوهم إلى أنها مخالفة للقانون إلا بعد عرض الموضوع على مجلس الوزراء». لكن بالتجربة، تبيّن أن هذه التوصية لم تلقَ آذاناً صاغية ولم يتم الالتزام بها يوماً. أولاً، لأنها لا تملك القوة القانونية للمرسوم الاشتراعي الصادر في عام 1959، وثانياً، لأن دستور الطائف أتى ليزيد من قوة الوزير لا العكس (يتولى الوزراء إدارة مصالح الدولة ويناط بهم تطبيق الأنظمة والقوانين كل بما يتعلق بالأمور العائدة إلى إدارته وما خص به)، وثالثاً لأن الممارسة كانت ميّالة إلى توسيع المخالفات القانونية لا تضييقها.