*يمكن تقديم مقاربتين لأي حراك نقابي: مقاربة النقابي وتتركز على تعقب الأحداث وتطوراتها ونتائجها، والحكم بالسلب أو الإيجاب على هذه الممارسة بخطابها ومحطاتها ومفاصلها. ومقاربة أكاديمية تحدد وجهة التقييم من منظار مجال علم إنساني معين. والمقاربتان تصبّان حكماً في خدمة النقابة والعمل النقابي.
في مقاربة أكاديمية من منظار علم الاجتماع، وهي مقاربة تضع حراك الأساتذة في موقعه كحراك لفئة مهنية تعبّر في تركيبتها عن خصوصية وضعنا اللبناني، وتشكّل صورة مصغرة عن التكوين المجتمعي الكلي الذي تنتمي اليه وتمارس حراكها فيه، خصوصاً أن الطوائف وقواها السياسية تتمثّل في تركيبة الأداة النقابية للأساتذة. وهذه صورة ليست جديدة عن لبنان وعن العمل النقابي فيه بشكل عام. فما هو إذاً الأمر المتمايز في الحراك الأخير؟
لا بد أن يبدأ الكشف عن هذا التمايز بالابتعاد عن السؤال في نقاط القوة والضعف لأن ذلك سيضعنا أمام إجابتين:
- الأولى: إنّ التركيبة النقابية للأساتذة تمثل نقطة «ضعف» في أي حراك يتم خوضه، وهي مهددة بسطوة أحزاب السلطة على قراراتها، مما يعيق اتخاذها للقرارات المناسبة في التوقيت المناسب. لذا يجب تحرير النقابة من الهيمنة الحزبية لتفعيل العمل النقابي ودفعه قدماً.
- الثانية: إنّ التركيبة النقابية للأساتذة تستمد «قوتها» من تكوينها الذي تتمثل فيه «أحزاب السلطة» المتنوعة. فهذا الوضع يسهل فتح قنوات التفاوض مع قوى السلطة. كما أنّ هذا التكوين المتنوع يؤدي في تناقضات مصالحه أو توافقها إلى نهايات «مطلبية سعيدة».
تمثل الإجابتان وجهتي نظر حاضرتين بقوة في أي تقييم لحراك نقابي في لبنان. وهما تعطلان إمكانية الكشف عن تمايز حراك نقابي بعينه وفهمه في العمق.
في المقابل، علينا استبدال سؤال نقاط القوة والضعف - الذي يأخذ النقاش إلى منزلقات سياسية - إلى سؤال في تمايز مسار الحراك في تعبيره عن خصوصية تركيبة نقابتنا، وعن كيفية كشف الممارسة النقابية عن تفاعل نوعين من الانتماءات في داخلها: التقليدي الطائفي من جهة، والحديث بما يمثله شكل اتحاد الفئة المهنية واتحاد مصالحها في الممارسة النقابية من جهة أخرى.
اللافت في مسار هذا الحراك يتمثل في خمسة مشاهد: الجمعية العامة الأولى التي اطلقت في السادس من أيار قرار الإضراب المفتوح؛ اقتراع مندوبي الأساتذة لصالح نقض قرار الهيئة التنفيذية بتعليق الاضراب؛ المدة الزمنية للحراكح - مخاض وحدة الأداة النقابية المتنوعة الانتماءات الطائفية والحزبية؛ والحراك الطلابي. وقد كشفت هذه المشاهد عما يمكن تسميته تفلّت «لحظة الممارسة المدنية - النقابية» من تقليدية الانتماءات المكوّنة لها. وقد ساعدت في تظهير هذه اللحظة محددات عدة. فكيف كان الأمر في الحراك الأخير؟
- أطلق أساتذة الجامعة حراكهم في جمعية عامة بعدما شعروا بأنّهم في مواجهة تهديد وجودي لهم ولمؤسستهم «الجامعة اللبنانية»، قبيل إقرار الحكومة لمشروع موازنة غير شعبية. فالمعركة ليست معركة مطالب هذه المرة، بل معركة دفاع عن مكتسبات تاريخية بعدما هددت الموازنة الأساتذة في رواتبهم ونظامهم التقاعدي وتقديماتهم الاجتماعية.
- خاضت السلطة في مواجهة إضراب الأساتذة سياسة الإهمال التاريخية عينها وأوصدت في وجه قادتهم النقابيين الأبواب في بدايات الحراك، كما شرعت في حرب كلامية ضدهم تولتها شخصيات سياسية أساسية وغير أساسية، وحرّضت الطلاب على أساتذتهم بذريعة الحرص على العام الدراسي. كما وجهت الإعلام المطيف ضد الحراك لا سيما في بدايات الإضراب، فأضحت منصات التواصل الاجتماعي، للمرة الأولى ربما، الملاذ الوحيد للناشطين من الأساتذة لشرح قضيتهم للرأي العام. وكان هذا السلوك كفيلاً بشد لحمة الجسم النقابي الهش وأسهم في تأمين هامش لتوحد الأساتذة ككتلة رغم اختلاف مشاربهم.
- أمّن هذا التهديد الوجودي وسياسة التحقير المنتهجة وحدة حال الفئة المهنية، وشهدت الأحزاب التي ينتمي اليها الأساتذة، والممثلة باغلبيتها في قيادة نقابتهم، أجواء نقاش في الكواليس حول سياساتها تجاه الحراك.
- وليس أدل على تعبير الحراك عن مدنية اللحظة سوى نمو بوادر حراك طلابي جنيني إلى جانبه. إذ اسهم الطلاب في كل انشطة الأساتذة وأخذوا في بلورة شعاراتهم الخاصة، وهذه «اليقظة الطلابية» دفعت باتجاهها أيضا الظروف العامة في البلاد وانسداد آفاق العمل امام المتخرجين، فضلاً عن كثير من المطالب الجامعية المزمنة.
تجتمع هذه المعطيات أعلاه لتشير إلى أنّ «اللحظة المدنية» ما كان لها أن تتبدى إلا في سياق مغرق في سوداويته على مستوى الأوضاع العامة في لبنان كما على مستوى واقع الجامعة. ومن هذا المنظار، يمكن القول إنّ التحرك الأخير كان متمايزا في مدنيته اللبنانية، وفي معاناته معها ومخاضه وصراع هيئاته وصولاً إلى نتائجه الجيدة نسبياً.

* أستاذة في معهد العلوم الاجتماعية
** جزء من ورقة قدمت في ندوة تقييمية نظمتها «الجمعية اللبنانية لعلم الاجتماع»