أصبحَ بالإمكان التأكيد أن الرئيس سعد الحريري لم يرضَ التسليم بواقِع إدارة رئيس مجلس النواب نبيه بري لمُفاوضات ترسيم الحدود البرية والبحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة. وكل المعلومات المتقاطعة بشأن زيارته الأخيرة لواشنطن تدلّ على ذلك، ولا تخرُج عن سياق ما كان يُرسَم بعناية. فالحماسة الأميركية تجاه لبنان لإنجاز هذا الملف لم تكُن مجرّد تطور هامشي، بل في سياق عرض موسّع سبَق أن طرحه الأميركيون على الحريري، وتحديداً عبرَ صهر الرئيس دونالد ترامب، ومستشاره جاريد كوشنر، الذي ربط تسهيل الحل بالحصول على مبالغ مالية لدعم مشاريع استثمارية تصِل قيمتها إلى نحو 6 مليارات دولار، بالإضافة إلى مطالب أخرى (راجع «الأخبار»، 29 حزيران 2019).هذا ما أراد له الأميركيون أن يتحقّق بواسطة الحريري. وكان الأميركيون يفضلون أن يكون الحريري هو المفاوض اللبناني، بسبب عدم معارضته الفصل بين الحدود البرية والحدود البحرية (وهو ما سعت إليه واشنطن، وفقاً للمصلحة الإسرائيلية). يومَها كان موقف رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ووزير الخارجية جبران باسيل أقرب إلى رئيس الحكومة من موقف حزب الله وبري، قبلَ أن يتوحّد الموقف اللبناني خلفَ آلية من عدة بنود أساسها ربط التفاوض على الحدود البرية بالبحرية، بالإضافة إلى رعاية الأمم المتحدة لأي مفاوضات.
الدفع القوي الذي مُنح للرئيس بري خلال إدارته التفاوض مع الموفدين الأميركيين، وعلى رأسهم وزير الخارجية مايك بومبيو، وتشدّده على قاعدة «إما قبول الآلية بكل بنودها وإما لا تفاوض» دفع الجانبين الأميركي والإسرائيلي خلال الأشهر الماضية إلى الموافقة على أغلب الشروط اللبنانية، قبلَ أن تتراجع «إسرائيل»، محمّلة الوسيط الأميركي ديفيد ساترفليد رسالة ترفض فيها التفاوض برعاية الأمم المتحدة، وتُصر على عدم الالتزام خطياً بالتلازم بين الحدود البرّية والبحرية. طوال تلكَ المدة، لم يتوقف الحريري عن التعبير عن استيائه من تولي برّي إدارة هذا الملف. وكان خلال تواصله الدائم مع حزب الله يؤكّد أنه الأولى بالتفاوض لأنه «صديق شخصي لكوشنر»، إلا أن الحزب قطع الطريق عليه بالتأكيد أنه «يقف خلف بري في كل ما يقرره بشأن التفاوض»، علماً أن رئيس الحكومة كان صريحاً إلى درجة القول إنه «يريد تقديم الحلّ هديةً لكوشنر الذي تعهّد بمساعدات اقتصادية للبنان في المقابل».
بعد نحو شهرين من تعليق الوساطة الأميركية نتيجة التراجع الإسرائيلي وتسلّم ساترفيلد سفارة بلاده في تركيا، أعيد إحياء الملف خلال وجود الحريري في واشنطن. إذ أعرب في مؤتمر صحفي بعدَ لقائه بومبيو «عن تفاؤله بإمكان التوصل إلى قرار نهائي في الأشهر المقبلة، نأمل أن يكون في شهر أيلول المقبل»، ولا سيما أن وزير الخارجية الأميركي أبلغه رسمياً أن الوسيط الأميركي الجديد هو ديفيد شينكر.
ما قاله الحريري لا يعني أن الأمور فعلاً تسير في اتجاه حل، بل إنها مرجحة للتعقيد أكثر إذا صحّت المعلومات التي وصلت إلى أكثر من طرف داخلي معنيّ بهذا الملف. فبحسب مصادر مطلعة، لم يتخلَّ رئيس الحكومة عن رغبته في أن يكون هو المُفاوِض، ولا حرصه على مسايرة «صديقه الشخصي» ليُسجّل له «الإنجاز» في الإدارة الأميركية. وما أُعلن «هو الجزء اليسير من نقاشات أوسع حصلت بين الحريري وكوشنر ومستشار الأمن القومي جون بولتون في اجتماعات بقيت بعيدة من الإعلام» وفقَ ما أكدت المصادر، مشيرة إلى أن «عدم التصريح عن هذه الاجتماعات يعود إلى الحرج الكبير في لقاء مهندس صفقة القرن، وأهم صقور الإدارة الأميركية يمينية وتطرفاً لإسرائيل».
زعم الحريري أنه اتفق مع بري على تخلي الأخير عن ملف التفاوض


هذا التكتّم خلقَ «نقزة» في الداخل اللبناني، وطرح علامات استفهام كثيرة على اجتهادات الحريري «السرية» مع «أصدقائه» الأميركيين، وذلك بالتزامن مع انتشار الحديث عن نيته طرح ما اتُّفق عليه حول الترسيم مع بومبيو على مجلس الوزراء للتصويت عليه. الأمر الذي يؤكد محاولاته المستمرة لسحب الملف من يد الرئيس بري، بالتزامن مع ترويجه خلال وجوده في واشنطن أنه «اتفق مع رئيس المجلس على ذلك، وأن الأخير لن يعارض، لكنه سيكتفي بالتحفظ خلال التصويت». إلا أن مصادر عين التينة نفت هذا الأمر، مؤكدة أن «الملف كان وسيبقى بعهدة الرئيس بري الذي كان قد قطع شوطاً مهماً فيه، وسيكمل ذلك بالنقاشات التي ستجري مع الوسيط الجديد». وقالت المصادر إن «كتلة التنمية والتحرير سترفض أي اتفاق أو عرض يتعارض مع الآلية التي وضعها لبنان شرطاً للتفاوض».
وبحسب معلومات «الأخبار»، تواصل الحريري مع رئيس مجلس النواب خلال وجوده في العاصمة الأميركية، وسمع تشديداً من بري على «وجوب تأكيد موقف لبنان من التلازم ومحاولة الحصول على التزام من الأميركيين بذلك». وإلى حين حصول اجتماع مباشر بين بري والحريري لمعرفة نتائج البحث مع المسؤولين الأميركيين في هذا الشأن، أكدت مصادر رفيعة المستوى أن «الملف سيبقى في يد رئيس المجلس حصراً، الذي سيلتقي شينكر الشهر المقبل في بيروت»، وإذا فاتح الحريري حزب الله بالموضوع «فسيسمع هذا الجواب، رغم كل تسويقه أن الفصل بين البر والبحر سيسمح للبنان بتلزيم البلوكات البحرية للتنقيب عن النفط والغاز ويجر إليه الأموال». كذلك سيكون موقف رئيس الجمهورية ميشال عون ووزير الخارجية جبران باسيل مشابهاً، تفادياً لأيّ خلاف داخلي يُمكن أي ينتج من ذلك.