كرست الغوغائية، عند رحيل البطريرك مار نصر الله بطرس صفير وقبل حادثة قبرشمون وبعدها، وفي خلاف العونيين والقواتيين وما رافق منع حفلة غنائية، تدني مستوى الخطاب السياسي والفكري والاجتماعي والاعلامي. أبدع اللبنانيون في تحويل وسائل تواصلهم والتلفزيونات، إلى حبل غسيل وشرفات عراك. هو انعكاس لمسار الاحزاب والقوى الراعية لكل هذه الردود والردود المضادة، كزعماء مافيات ايطالية يجندون شبانهم في ساحات المواجهة مع المافيات الاخرى. تحوّل المغردون والفنانون والسياسيون والناشطون والمذيعون والاعلاميون وكل من يحمل هاتفاً خلوياً، إلى قضاة للأخلاق ومطلقين لاتهامات عشوائية تمس أعراض الناس، وموزعين للشهادات بالوطنية، ونصّبوا أنفسهم علماء فقه ولاهوت وسياسيين ومثقفين. كل شيء بات مسموحاً، إلا النقاش الذي انعدم في الحياة السياسية ــ والاعلامية. ولا يمكن فصلهما، لان كل واحدة باتت مرآة الاخرى.لا يناقش الزعماء حلفاءهم ولا أعداءهم، والأكيد أنهم لا يناقشون مناصريهم. وهؤلاء لا ينقاشون أحداً ولا يقبلون الرأي الآخر، إلا وفق تصنيفات حزبية معلبة. غياب النقاش الجدي، ولم يحصل مثله في عز الحرب، هو العنصر الاساسي في جعل الحياة السياسية خاوية.
كان حاكم مصرف لبنان الدكتور إدمون نعيم يأبى الا ان يدخل الى مكتبته، الممتدة على مساحة طابق كامل من منزله، ترتفع فيها الكتب على أعمدة حديدية، يغرق فيها، ولا يقول كلمة الا ويعود فيها الى مرجعها الاصلي. هذا المشهد الذي لا يفارق ذاكرة أي زائر، نراه اليوم معكوساً لدى سياسي ناشئ مختزلاً آراءه السياسية بكلمات مستقاة من الموقع الإلكتروني التابع لحزبه. لا يقرأ جريدة ولا كتاباً، ولا يسمع إلا ما يقوله رئيس حزبه.
كان كميل شمعون يكتب مذكراته، يروي فيها يوميات السلم والحرب. رسالته الى زوجته الراحلة زلفا، عبارة عن رسالة حب استثنائية، لكنه لم يفته التوقف فيها عند أهمية قراءة الكتب بينهما. كان ريمون إده وشارل حلو يكتبان، وكمال جنبلاط يكتب في صورة دائمة ويقرأ بلا توقف، رشيد كرامي وصائب سلام، جميعهم كانوا يكتبون ويقرأون بالمعنى الواسع للكلمتين. وكان النقاش محتدماً الى حد استخدام عبارات حادة بين جنبلاط والامير مجيد أرسلان، بين جنبلاط وصائب سلام، بين شمعون وجنبلاط والشهابية وسوريا لاحقاً. لكن ظلت مساحة النقاش واسعة. عناوين صحف قبل الحرب وخلالها عكست هذه السجالات، مانشيتات ومقالات رئيسية. الا ان ما نشر لا يزال يحمل غنى ثقافياً وإرثاً سياسياً والى حدّ كبير فكرياً، لأن قادة تلك المرحلة، زعماءها وقيادات الصف الثاني، وكانوا اساسيين، من النخبة الفكرية، التي أنتجتها الجامعات اللبنانية والخاصة: أي جامعة لم تشهد نقاشاً حول المقاومة الفلسطينية والقضية الفلسطينية؟ أي منتدى لم يحمل بذور نقاش حقيقي، من الاصلاح الاجتماعي والصحي والجامعي والطلابي وصولاً الى القضايا الفكرية، من حركة الوعي الى كل الاتجاهات اليمينية واليسارية وما بينهما. نقاشات القومية اللبنانية والعربية والاممية، حتى نقاشات الكنائس والجوامع، مؤلفات المطارنة والاساقفة، من المطران يوسف الدبس الى ميشال الحايك وغريغوار حداد، وخطب الامام موسى الصدر، وأدباء جبل عامل وعلمائه، نقاشات الشيخ عبد الله العلايلي والشيخ صبحي الصالح، كل ذلك كان على قاعدة أرقى ممّا نشهده اليوم، رغم اختلاف معايير التعليم والثقافة بين سنوات قبل الحرب وبعدها، فانتشار المدارس والجامعات وحملة الالقاب، لم يسهم في رفع مستوى الثقافة.
من هم المشرعون الذين يحاورون بما يتعدى طاعة زعيمهم؟


لم تتمكن الحرب من إسكات النقاشات، بعدما أضيفت مساحات أخرى، من الجامعة الاميركية واليسوعية واللبنانية الى جامعة الروح القدس الكسليك، التي وإن كانت شريكاً في مشروع، لكنها فرضت أيضاً دورها كركن نقاش حيوي. حتى الحياة الاجتماعية، والصاخبة منها، كانت مبنية على قاعدة ثقافية. تروي السيدة الشهيرة مود فرج الله في مذكراتها المعبرة عن حياة اجتماعية لافتة قبل الحرب، قراءاتها الكلاسيكية وكل من عرفته من شخصيات سياسية واجتماعية مؤثرة، تماماً كما تتحدث عن السهرات والاحلاف والوساطات السياسية.
كل الاحزاب في الحرب والسلم لجأت الى الحوار. لم تقتصر حلقات إذاعية للحزب السوري القومي الاجتماعي على شرح عقيدة الحزب، والاحزاب الاخرى، بل تناولت ايضاً الادب والموسيقى وحتى الرياضة. كانت الجلسات مع قادة الحزب الشيوعي حلقات حوارية عن فكرة أو نظرية اقتصادية أو عن مقال وكتاب صدر حديثاً. هل يمكن أن يحمل عنوان كتاب افضل من كلمة "حوارات" لكريم مروة يحاوره فيه أهم المفكرين العرب؟ كل الاحزاب، واليمينية منها، كانت تعقد حلقات فكرية مستمرة، أغنت النقاش في صحفها واعلامها، العمل، الاحرار، البناء، النداء، قبل أن يتوسع عبر صحف ومجلات بتمويل يساري ويميني، في لبنان ومن ثم قبرص وبعدها باريس. لم تخرج الحرب من النقاش وان وصل الى عبارات حادة. جيل الحرب يتذكر السجالات الحادة بين الاذاعات الخاصة الحزبية وتلفزيون لبنان حين انقسم بين قناتي 5 و7، لكنه ايضاً يذكر اللقاءات الحوارية الكثيفة في لبنان والخارج، ويذكر المسارح في البلدات المحاصرة والاندية من جل الديب الى زغرتا الى بيروت المنقسمة على ذاتها، والجنوب وشعرائه الخارجين من رحم المعاناة والحرب ومتخرّجي المسرح فيه. في الحرب نمت الرواية وبرزت اسماء لامعة، وانتعش المسرح وازدهر الفن والموسيقى بأسماء كلاسيكية وجديدة، وبعدها بقليل زمن السلم بعد الطائف، حين ولدت المسارح الجدية من رحم الحرب. دار نقاش جدي حول الحرب ومسبباتها وأخطائها. لم يأت فنان الا ونوقش، باحترام من دون سخرية بذيئة ولا استعلاء ولا توجيه احكام مسبقة. ثمة قاعدة لم تسرقها كل المدافع والمجازر، وهي الاحترام واللياقة والتهذيب. يصبح اللبنانيون شيئاً فشيئاً شعباً فاقداً لهذا الثالوث، على مستوى الحياة الاجتماعية اليومية، وفي الفن والاعلام، وفي السياسة ايضاً يفقدون رقي الحوار ورفعته. ولا يمكن فصل كل هذه الاتجاهات بعضها عن بعض، فلا سياسة من دون ثقافة. رسائل الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران الى من أحب، رسائل أدبية. الكاتب فاكلاف هافل رئيساً لتشيكوسلوفاكيا هو جوهر السياسة. في المجلس النيابي اليوم رئيس أديب وشاعر، لكن في المقابل غاب المشرعون الحقيقيون عنه كما في مجالس سابقة.
من هم المشرعون الذين يحاورون، ما يتعدى طاعة زعيمهم، ومن هم المناصرون الذين يحترمون الرأي الآخر ولا يسفّهونه. ليس نقاشاً ما سمعناه من عبارات بذيئة وسخرية وعظات من فنانين وإعلاميين ومواطنين (آخر كتاب قرأوا فيه كان في الصفوف الابتدائية)، بل إطلاق أحكام وتعدٍّ على خصوصيات الآخرين وسعي إلى فرض الآراء عليهم، وتبجيل زعماء وكأنهم أنصاف آلهة وعدم الاعتراف بالآخر، مهما كان رأيه. يكاد يشبه ما قاله الاديب سعيد تقي الدين عن الرأي العام. والاكيد أن قلة تعرف ما قاله.
يحتاج لبنان الى مساحة نقاش تشبه تلك التي حملت آراء غسان كنفاني ومثقفين وسياسيين عرب ملأوا مقاهي بيروت وصحفها نقاشات، والاجتماعات الفكرية التي يتحدث عنها الأباتي بولس نعمان في مذكراته، وحوارات مهدي عامل، وصخب الحركة الوطنية وقياداتها. يحتاج لبنان إلى هدوء الياس سركيس ورصانته، يحتاج الجميع الى التواضع والنقاش، لا الى صراخ وحوار أحادي. لسنا في زمن موسوليني.