يبحث مصرف لبنان عن آليات بديلة من شراء سندات خزينة بقيمة 12 ألف مليار ليرة تصدرها وزارة المال بفائدة 1%، لتحقيق وفر/ خفض في خدمة الدَّين العام وتضمينه في أرقام النفقات في الموازنة التي أقرها مجلس النواب. هذا ما أكّدته مصادر في مصرف لبنان لـ«الأخبار»، من دون أن تنفي أن السيناريوات المطروحة عديدة، «لكن لم يتخذ قرار السير بأي منها بعد». فما هو ثابت وأكيد أن مصرف لبنان «لا يمكنه الالتزام مسبقاً بالاكتتاب بسندات خزينة تصدرها وزارة المال بفائدة مخفضة، لكننا ملتزمون مواكبة إقرار الموازنة، علماً بأننا نتوقع أن تتحسّن الأسواق المالية وأن تبدأ أسعار الفوائد بالتراجع قريباً، ما يتيح لمصرف لبنان خلق الوفر المطلوب للخزينة عبر آليات يبدأ تطبيقها تزامناً مع تقليع الموازنة».تأتي عملية البحث عن آليات جديدة، بعدما تبيّن أن مصرف لبنان عاجز عن شراء السندات الجديدة التي ستصدرها وزارة المال بفائدة 1%، إذ إن البعثة الرابعة في صندوق النقد الدولي التي زارت لبنان أخيراً، حذّرت مصرف لبنان من الخسائر المترتبة على هذه العملية، مشيرةً إلى الخسائر التي تكبدها مصرف لبنان في الفترة الماضية جراء الهندسات المالية وسياسة الحفاظ على ثبات سعر صرف الليرة الاسمي مقابل الدولار، وحذرته من توسيع هذه الخسائر التي «تقوّض صدقيته».

ثلاثة سيناريوات مطروحة لكل منها مفاعيل مختلفة(مروان بوحيدر)

هكذا باتت صدقية الموازنة بكاملها على المحك. لن يعود بإمكان الحكومة ووزير المال وحاكم مصرف لبنان «التفاخر» بأنهم تمكنوا من خفض عجز الموازنة نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى 7.6% كما أعلنوا، بل ستكون نسبة العجز أعلى في حال لم يتحقق التزام مصرف لبنان.
في المقابل، صرّح سلامة: «وإن كان لا اكتتاب بسندات خزينة بفوائد مخفضة، فإن مصرف لبنان سيسهم بخفض عجز الموازنة عبر أدوات مالية أخرى». هذا الوعد لا يزال غامضاً، فيما مجلس النواب أقرّ الموازنة «على العمياني» ووافق على أن تكون أرقام النفقات أقل بقيمة ألف مليار ليرة مما يجب أن تكون عليه. كذلك بات واضحاً أن النواب لم يطّلعوا على الآليات التي سيلجأ إليها مصرف لبنان لخلق هذا الوفر، ولا على الخسائر المالية التي سيتكبدها لتحقيق هذا الوفر.
وبحسب مصادر مطلعة، هناك أكثر من فكرة مطروحة من دون أن يكون هناك جزم بأنها ستحقق الوفر المطلوب كلّه ومن دون أن تكبّد مصرف لبنان خسائر (الخسائر تنجم عن كونه يدفع للمصارف فوائد أعلى بأضعاف مما يمكن أن يحصل عليه من سندات الخزينة ذات الفائدة المخفضة):
ــــ في الاجتماع الذي عُقد في القصر الجمهوري بين رئيس الجمهورية ميشال عون وفريقه الاقتصادي بحضور حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، اتفق على أن يكون المعيار المتبع لمساهمة مصرف لبنان في خفض كلفة خدمة الدين العام، هو ألّا تنطوي هذه العملية على خلق إضافي للنقد. لذا، تداول المجتمعون باقتراح يرمي إلى عملية «سواب» (مبادلة) تقليدية، يستبدل بموجبها مصرف لبنان سندات خزينة فائدتها مرتفعة، بسندات خزينة جديدة تصدرها وزارة المال بفائدة 1%. في هذه الحالة، يترتب على مصرف لبنان خسائر سيدفعها من ميزانيته تمثّل الفرق بين الفائدة التي يدفعها على ودائع المصارف لديه، والفائدة التي يحصل عليها من سندات الخزينة المستبدلة. غير أن هذه الحالة لا تحلّ المشكلة كلّها، فاستبدال دين قديم بدين جديد لا يغطي تمويل مدفوعات وزارة المال في المستقبل، علماً بأن الوزارة راكمت أوامر صرف مستحقة على الدولة بقيمة تفوق ملياري دولار، من بينها 900 مليون دولار عن عام 2019 وحده. وبالتالي فإن عملية الاستبدال، تغطي الديون القديمة ولا تغطي الديون الجديدة التي تحتاج إليها الوزارة لتسديد المدفوعات المتراكمة.
مصرف لبنان ملتزم خفض خدمة الدَّين مواكبةً لإقرار الموازنة


ــــ يتداول بعض المصرفيين أن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة عرض على رئيس جمعية المصارف سليم صفير أن تشتري المصارف حصّة الدولة من مؤسسة ضمان الودائع والمخمّنة بنحو 1.3 مليار دولار، ما يعني أن هناك مبلغاً إضافياً سيدخل إلى الخزينة من دون أن يرتب خسائر على مصرف لبنان ويكون مبرراً للمصارف إنفاقه بهذه الطريقة.
ــــ لا تنفي مصادر في مصرف لبنان أن من بين الأفكار المطروحة مسألة استعمال فروقات تقييم الذهب المنصوص عليها في المادة 115 من قانون النقد والتسليف. تنص هذه المادة على أن «يفتح باسم الخزينة حساب خاص تقيد فيه الفروق بين ما يوازي موجودات مصرف لبنان من ذهب وعملات أجنبية بالسعر القانوني وبين السعر الفعلي لشراء أو مبيع هذه الموجودات. وتقيد فيه أيضاً الخسائر الناتجة، في موجودات مصرف لبنان من ذهب وعملات أجنبية، عن تعديل سعر صرف الليرة القانوني أو إحدى العملات الأجنبية». المنطق يقضي بأن تُوزَّع الأرباح الناتجة من فروق تقييم سعر أونصات الذهب التي يملكها لبنان عندما تتحقق عملية بيع الذهب، إلا أنه في فترات من العقود الأخيرة، لجأ مصرف لبنان والحكومة إلى استعمال هذه الفروقات «الدفترية» واعتبارها أرباحاً يمكن تحويل 80% منها للخزينة بحسب نص المادة 113 من قانون النقد والتسليف، واستعمالها لإطفاء (شطب) ديون مترتبة على الخزينة يحملها مصرف لبنان في محفظته. قد تستعمل هذه العملية لإطفاء أكثر من 2000 مليار ليرة من ديون الخزينة التي يحملها مصرف لبنان في محفظة السندات.



حدود «المركزي» في إقراض الدولة
تنصّ المادة 90 من قانون النقد والتسليف على أنه «باستثناء تسهيلات الصندوق المنصوص عنها في المادتين 88 و89، فالمبدأ ألّا يمنح مصرف لبنان قروضاً للقطاع العام». وتسهيلات الصندوق محددة بـ10% من متوسط واردات الدولة في آخر ثلاث سنوات، أي ما يوازي 1200 مليار ليرة فقط. هذه هي الحدود التي يسمح بها قانون النقد والتسليف لمصرف لبنان، لكن الحدود التي رسمها الحاكم رياض سلامة أوسع بكثير، إذ بات مصرف لبنان يحمل 52.6% من سندات الخزينة بالليرة اللبنانية البالغة 80235 مليار ليرة في نهاية أيار 2019 (128700 مليار ليرة الدين العام الحكومي)، أي إنه أقرض الخزينة 42200 مليار ليرة، مقابل حصّة المصارف الخاصة البالغة 33.4%، أي ما يوازي 26800 مليار ليرة.
هذا لا يعني أنْ ليس بإمكان مصرف لبنان إقراض الحكومة، فالمادة 91 نصّت على أنه «في ظروف استثنائية الخطورة أو في حالات الضرورة القصوى، إذا ما ارتأت الحكومة الاستقراض من مصرف لبنان، تحيط حاكم المصرف علماً بذلك، ويدرس المصرف مع الحكومة إمكانية استبدال مساعدته بوسائل أخرى، كإصدار قرض داخلي أو عقد قرض خارجي أو إجراءات توفيرات في بعض بنود النفقات أو إيجاد موارد ضرائب جديدة... وفقط في الحالة التي يثبت فيها أنه لا يوجد أي حل آخر وإذا أصرت الحكومة، مع ذلك، على طلبها، يمكن المصرف المركزي أن يمنح القرض المطلوب، حينئذ يقترح المصرف على الحكومة، إن لزم الأمر، التدابير التي من شأنها الحدّ مما قد يكون لقرضه من عواقب اقتصادية سيئة وخاصة الحد من تأثيره، في الوضع الذي أعطي فيه، على قوى النقد الشرائية الداخلية والخارجية».


فسحة مالية بملياري دولار
التفاؤل الذي يشيعه مصرف لبنان بشأن عودة أسعار الفائدة إلى مسار انحداري أو تحسّن الأوضاع ناجم عن الفسحة المالية المتواضعة التي خلقتها الهندسات الأخيرة بعدما استقطبت خلال فترة قصيرة ملياري دولار مجمّدة في لبنان لمدة ثلاث سنوات. هي فسحة مالية باهظة الكلفة، لأنها رفعت أسعار الفائدة على الودائع بالدولار إلى 14.33%، وهي فسحة تسابق التطورات السياسية الدراماتيكية في تداعيات حادثة قبرشمون التي أدّت إلى تعطيل الحكومة وربما نسفتها، في وقت تستعد وكالة ستاندر أند بورز لإصدار تقريرها التصنيفي للدين السيادي في لبنان، وسط ترجيحات بأن يكون خفض التصنيف هو العنوان الأبرز في 23 آب (يوم إعلان التصنيف).