من جريمة قبرشمون، عاد التدخل الأميركي في الشأن اللبناني إلى أوقح صوره. صحيح أن الحضور الأميركي الصلف ليس غريباً عن لبنان. إلا أن واشنطن التي اعتادت فرض الرعب على المصارف والمتعاملين بالدولار، ولا تتوانى عن الضغط على الاقتصاد وبعض السياسيين، وكذلك فرضت نفسها بالقوة مصدراً شبه وحيد لتوريد السلاح والعتاد العسكري للجيش اللبناني، لم يكن ينقصها سوى أن تعطي رأياً بجريمة وقعت على الأراضي اللبنانية، ولا تزال أمام القضاء. وهي فعلت ذلك أمس، بشكل يشكّل سابقة، لم تحدث منذ العام 2005، يوم كانت السفارة الأميركية شريكاً مضارباً لفريق 14 آذار في «ثورة الأرز». فقد أصدرت السفارة، أمس، بياناً أكدت فيه «دعم الولايات المتحدة المراجعة القضائية العادلة والشفافة دون أي تدخل سياسي». واعتبرت أن «أي محاولة لاستغلال الحدث المأساوي الذي وقع في قبرشمون في 30 حزيران الماضي بهدف تعزيز أهداف سياسية، يجب أن يتم رفضها». كما أشارت إلى أن الولايات المتحدة «عبّرت بعبارات واضحة إلى السلطات اللبنانية عن توقعها أن تتعامل مع هذا الأمر بطريقة تحقق العدالة دون تأجيج نعرات طائفية ومناطقية بخلفيات سياسية».الانطباع الأول الذي ساد عند أكثر من جهة سياسية، كان نجاح وليد جنبلاط في حملة التحريض على حزب الله واستجداء الدعم من السفارات الغربية والعربية. فبيان السفارة لا يُقرأ إلا بوصفه موجهاً ضد حزب الله وحلفائه، ومن بينهم رئاسة الجمهورية والتيار الوطني الحر. كما يوحي أنه استكمال للمؤتمر الصحافي الذي عقده الوزير وائل أبو فاعور واتهم فيه عدداً من وزراء «تكتل لبنان القوي» بالضغط على القضاء. أضف إلى أنه يحذر من تأجيج النعرات الطائفية، فيما واشنطن لا تتوانى عن تحريض بعض اللبنانيين على بعضهم الآخر. لكن ماذا بعد؟ أين يُصرف هذا البيان في السياسة اللبنانية؟ أو بشكل أدق، كيف سيستفيد منه جنبلاط؟

أين يصرف جنبلاط الدعم الأميركي؟ (هيثم الموسوي)

كل المعطيات تشير إلى أن الزعيم الاشتراكي لن يكون أفضل حالاً بعد البيان من قبله. إذا كان حزب الله وحلفاؤه يريدون عزله، فكيف سيساهم بيان كهذا بتغيير هذا الاتجاه؟ ما هي أدوات أميركا التي يمكن أن تستعملها لفرض توجهاتها على الأرض؟ كل سلوكها يشير إلى أنها تملك سلاحاً واحداً، هو السلاح المالي - الاقتصادي. وعلى ما تُبين التجربة، فإن هذا السلاح الثقيل، أصاب الاقتصاد اللبناني بمقتل، وأدى إلى ارتهان النظام المصرفي كلياً للخزانة الأميركية ولأوامرها، إلا أن تأثيره على «حزب الله» يكاد لا يُرى. فلا هو جزء من النظام المصرفي ولا هو مهتم بلوائح الإرهاب المتتالية حتى يتأثر ببيان من فقرتين. هذا لا يعني أن البيان ليس خطراً. لغته استثنائية في عالم الديبلوماسية. هي أقرب إلى لغة المنتدبين. لكن بالرغم من ذلك، وبالرغم من أن البيان يشكّل اعتداءً على السيادة وتدخلاً في القضاء، من بوابة انتقاد التدخل فيه، إلا أنه حتى ليل أمس، لم يكن قد صدر أي موقف رسمي منه. في المقابل، فإن مصادر رسمية اعتبرت ان «البيان يشكل تدخلاً في الشأن اللبناني، وبطريقة غير معتادة، فالكل يعرف أن السفارة تعبّر عن موقفها من الشؤون اللبنانية خلف الأبواب المغلقة، أما إصدار بيان علني بذلك، فيشكل سابقة يفترض أن تلقى الرد من وزارة الخارجية». يكفي أن تعود الوزارة إلى أرشيفها لتتذكر ما فعله وزير الخارجية علي الشامي في العام 2011. حينها استدعى السفيرة مورا كونيللي، بعد زيارتها للنائب نقولا فتوش ومحاولتها التأثير على موقفه من الاستشارات النيابية، وقال لها إن تصرفها يشكل تدخلاً في الشؤون اللبنانية وخرقاً للأعراف الدبلوماسية ولأصول التمثيل الأجنبي. رسالة أمس أشد فجاجة من زيارة كونيللي ولم يتبين بعد كيف ستتعامل «الخارجية» معها.
هل يستدعي باسيل السفيرة الأميركية كما فعل علي الشامي؟

أما جنبلاط، علة البيان وحجّته، فيدرك تماماً أن أميركا، وفي ذروة قوة «14 آذار»، لم تتمكن من فرض واقع جديد في لبنان. ولذلك تحديداً فإن الديباجة الأميركية لن تفيده، لا بل قد تساهم في زيادة الضغط عليه لا العكس. ليس مصدر الضغط هو القوى المناوئة له حالياً، بل حقيقة أن انضمام البيك إلى المحور الأميركي مع تلاحق انكساراته في المنطقة وعجزه عن تحقيق أي انتصار صريح في معركته مع محور المقاومة، إن كان في سوريا أو اليمن أو العراق وصولاً إلى الخليج، لن يكون في صالحه. فأميركا التي يستنجد بها جنبلاط غير قادرة حتى على تشكيل تحالف في الخليج للوقوف في وجه السيطرة المطلقة لإيران على مضيق هرمز. وأميركا التي يستنجد بها، لن تتأخر قبل أن تغرق في انتخاباتها الرئاسية، مع ما يشكّله ذلك من ابتعاد تلقائي عن المشاكل الخارجية. وعليه، فإن جنبلاط لن يكون أمامه سوى إنهاء جولاته على السفراء والعودة إلى البحث عن السبيل لعودة الحوار مع حزب الله، وربما مع سوريا.
بعيداً عن البيان وتداعياته، لم يشهد يوم أمس أي تقدم في المساعي الآيلة إلى انعقاد مجلس الوزراء، والاتفاق على حل لقضية قبرشمون. بل على العكس بقيت المواقف على تشنجها.
وإذ أكد الوزير جبران باسيل عدم السماح بمشكل درزي مسيحي في الجبل، فقد أشار إلى أن «قطع الطريق والاعتداء في قبرشمون حصل على وزراء ونواب يزورون مناطقهم وناسهم، الوقائع واضحة ولن يستطيع أن يتهرب منها أي قضاء عسكري أو عدلي أو جنائي».
وشدد باسيل على «إننا لن نستأذن أحدا لندخل إلى بيوتنا في الجبل ولن نسمح بالاقطاعيات السياسية والقضاء من واجبه الدفاع عنا والجيش من واجبه أن يحمينا وكل تعاطينا ما قبل حادثة قبرشمون وما بعد الحادثة هو مفهوم الدولة».