مرّت جريمة قبرشمون، ومرّت مناقشات ومنازعات الموازنة العامة، ومرّت السجالات حول المواقع والحصانات، ومرّت الملاحقات القانونية لفساد القضاء والأمن، ومرّت حسابات المالية العامة والجدل حول السياسات النقدية، ومرّت اعتراضات المتقاعدين من العسكريين وبقية موظفي القطاع العام، ومرّت السجالات حول المحرقة والمطامر والمقالع والكسارات... لكن البلاد لم تشهد شيئاً نوعياً.ليس بمقدور أحد الادعاء أننا نسير نحو الأفضل. ولكن، ليس بمقدور المواطن التحرك لإجبار المسؤول، أي مسؤول، على التغيير الحقيقي. بل ها هي جريمة قبرشمون تعيد إحياء العصبيات، وكأن ما فات لم يفت، ولا أحد يريد التعلم، لا من الدروس ولا من الأخطاء. ولعبة الإنكار قائمة ودائمة. ورمي المسؤولية على الآخرين حرفة السياسيين وجماهيرهم ايضاً.
في قابل الايام، سنواصل السجال حول الصلاحيات ومصير الحكومة والاستعداد للانتخابات الرئاسية. وسنستعيد الجدل حول أحقيّة هذا الطرف او ذاك بهذا الموقع او ذاك، ونحن نراقب أبشع عملية تعيينات ادارية متوقعة منذ توقف الحرب، إذ سيكتمل نصاب المحاصصة. فانضمام التيار الوطني الحر، بصفته ممثل الغالبية المسيحية، الى نادي المتصارعين على حصص داخل الادارة، سيقفل الدائرة ولو الى حين. ولا يهم هنا إن كان الشعار استعادة الحقوق أو حصول تغيير، ما يهم هو أن التيار دخل بازار القوى السياسية ولم يعد هناك إصلاح ولا من يحزنون. وسيظل حزب الله والقوات اللبنانية تحت نظر الباقين من الناس، لنعرف إن كان سمح لهما بالانضمام الى اللعبة، ام سنقرر اعتبارهما ممثلين بالواسطة. اما بقية الناس، فلهم البحث عن أسرع طريقة للهجرة بعيداً بالاولاد وبما تبقى من اموال...
في قابل الايام، سنشهد استعادة حرارة العمل على خطط استقدام اموال جديدة الى الخزائن اللبنانية. لا يهم شكل الهندسات المالية ونوعها، ولا حجم الفوائد المفترضة ولا حدود الارباح. المهم هو حاجة الدولة الى تمويل عجزها وديونها وحاجتها إلى الاستيراد، وليس على الناس ان تسأل كيف وبأي ثمن نستقدم هذه الاموال. ولن يشعر حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بأنه قيد المحاسبة أو المساءلة. وسيظهر لجميع الناس، من داخل الحكم وخارجه، أنه أقوى من المطالبين بمساءلته. وهو بالفعل أقوى منهم داخل النظام وخارجه، ومعه أسرار القائمين على الدولة والقطاع الخاص. لكنه في الاساس يعرف أن خصومه ليسوا على قدر من القوة يجعلهم يهددون نفوذه.
في الجسم القضائي والأمني، سيستمر الصراع على نفوذ وهمي، لكنه نفوذ يوفر امتيازات في لعبة الزواريب. الصراع على قيادة الجيش متواصل داخل الفريق الواحد. حتى الذين باتت لديهم أسئلتهم وهواجسهم ليسوا في وارد مقارعة المؤسسة العسكرية. أما في ما خص الاجهزة الامنية الاخرى، فليس هناك ما يوحي باستعداد لنقاش إصلاحي شامل، ما دامت كل جهة تتصرف على ان هذا الجهاز أو ذاك هو الانسب لمشاريعها. وعليه، يكون القضاء أكثر تعاسة، حيث ينتعش الفساد داخله، ويمارس الضغط وتدفع الرشى بما يحول دون حسم ملف ودون إحقاق العدالة. والاسئلة ستزيد حول دور الهيئات القيادية النافذة في سلطة القضاء. لكن نقاش اهل السلطة سيظل من زاوية تحقيق شروط لعبة المحاصصة لا أكثر ولا أقل. ومن هو في موقعه اليوم، يخاف الاطاحة به لمصلحة من هو أكثر مطواعية. ومن هو مرشح طبيعي لتولي منصب شاغر، عليه تقديم واجب الطاعة لأطراف النظام الطائفي حتى يحظى بفرصة ان ينال حقه.
من هو في موقعه اليوم، يخاف الاطاحة به لمصلحة من هو أكثر مطواعية


ومن تحت، سيظل الفلتان سيد النقابات المتصلة. من نقابة المحامين التي تحتاج الى انتفاضة بقصد التطهر، كما هي حال نقابات المهندسين والاطباء (على أنواعهم) والصيادلة والمعلمين الذين قد يهدرون فرصة التمرد القائمة على النظام القيادي المفروض من قوى ومرجعيات النظام الطائفي.
وماذا عن الاعلام؟
طبعاً، ليس الاعلام ببعيد عن كل هذه الفوضى. بنقاباته وتجمعاته ووسائله المختلفة، كما حال المعنيين بسوق الاعلان على انواعه، كما هي حال وزارة الاعلام نفسها، حيث المشكلة لا تتصل حصراً بعجز مهني وأخلاقي يحول دون استعادة الدور الطليعي للبنان في قطاع الاعلام، بل في الارتهان القائم الى حدوده القصوى، لمرجعيات النظام الطائفي الحاكم في لبنان.
اليوم نشهد مرحلة ضمور مؤسسات التلفزة العاجزة عن إنتاج بدائل لمواجهة عالم التواصل الرقمي الجديد، والتي تخوض حروباً عبثية بحثاً عن موارد اعلانية بأسلحة تقليدية فيها الكثير من «الزعبرة» و«التفنيص». ومن ينظر الى عالم الانتاج البديل، لا يمكن ان يتوقع نهضة من قنوات لبنان. ويصعب على أحد إقناع هذا الحزب وهذه المرجعية بوقف بث بعض القنوات التي لا يشاهدها غير اهل المنزل.
وفي الصحافة الورقية، لم يكن موت صحف عريقة محفزاً لمن بقي على تطوير حقيقي. حتى الجديد الذي ظهر أو الذي هو قيد الاعداد، لا يتجاوز فعلياً اطار لعبة المناكفة السياسية، من دون أدنى جهد إبداعي في مواجهة امتحان المهنة، وسط صراعات مضحكة على حصة اعلانية ضيقة للغاية، يعمل المحتكرون على تضييقها اكثر فاكثر.
أما لعبة المواقع الالكترونية التي يحاول البعض الهروب إليها فردياً، فهي غابة لا يتجاوز نفوذها الفعلي نفوذ ناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي، لكن البعض يريدها مصدراً للعيش، فيعتنق هوية المبتز الذي يجد السوق ناشطة مع طبقة حاكمة كثيرة الجرائم. لكن، هل أضاف موقعٌ إلكتروني شيئاً على الحياة المهنية، أو حتى على آليات صناعة هذا العالم من الاعلام والتواصل؟
ها نحن نعيش فصلاً جديداً في زمن القحط. وليس في يدنا سوى رفع الصوت تشهيراً ونقداً مهما كانت الأثمان... لكن التحدي الحقيقي هو في إعادة الاعتبار الى مهنة لها روادها الاصليون، بمعزل عن وجود ضيوف يحملون «أوراقَ مهمة» من أنظمة وقوى ورجال أعمال. وجود مهنة قوية، يجعل من الصعب على الضيوف الخروج من مقاعد المتفرجين!