مع أنّ عمر تجمّع الرؤساء الثلاثة بالكاد يعود إلى سنة واحدة فقط، ولم يسبق لأي منهم أبان وجوده في السرايا، أن خَبُرَ تجربة مماثلة عندما واجه عقبات أو شعر بافتئات على صلاحياته الدستورية، إلا أن دفاعهم الحالي عن الحريري وما يبدو لهم محاولة متعمدة لإضعافه والمنصب الذي يشغل، امتحنوه بأنفسهم في ما مضى. الثلاثة وصلوا إلى رئاسة الحكومة تباعاً على أثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وهم من ثم أبناء مرحلة الانقسام ما بين فريقي 8 و14 آذار، خارج النفوذ السوري في لبنان، في ذروة اعتداد حزب الله بسلاحه وتمسكه به. اثنان منهما، ميقاتي والسنيورة، رافقا الحقبة السورية، لكن من موقعين متباينين متناقضين بالتأكيد: الأول عُدَّ وقتذاك أقرب الأصدقاء إلى الرئيس بشار الأسد، والثاني لصيق الحريري الأب سلّم بكل خياراته مع سوريا، على أنه حليف لها لا يقطع من دونها شعرة من أجل أن يستمر في الحكم.
مارس الرؤساء الثلاثة، تباعاً أيضاً، السلطة عشية اتفاق الدوحة وغداة إقراره. الحكومة الأولى للسنيورة أتت به بعدما تسببت بقراري 5 أيار 2008 في أحداث 7 أيار، فانبثق من تداعياتها اتفاق الدوحة. من ثم ترأس ميقاتي ثالثة حكومات اتفاق الدوحة (2011 - 2013) وسلام رابعتها (2014 - 2016)، في ظل الأعراف التي أنشأها ذلك الاتفاق عندما أرسى، في معزل عن اتفاق الطائف، أعرافاً شتّى، من بينها تلك التي راحت ترعى تأليف الحكومات ومسارها مذذاك. يقتضي ألّا تكون إلا حكومات وحدة وطنية، يجري فيها تقاسم الأحجام والحصص والمقاعد، ناهيك بالثلث+1، وانقسام مجلس الوزراء بين فريقي 8 و14 آذار، وتعطل التصويت في المجلس وإبداله على الدوام بالتوافق.
الأهم في هذه الأعراف جرّبه الرؤساء الثلاثة على التوالي، مضافاً إليهم الحريري، ما برر انقضاء أشهر حتى الوصول إلى تأليف كل منهم حكومته: ليس الرئيس المكلف، ولا حتماً رئيس الجمهورية، مَن يؤلف الحكومة، بل المشاركة المتساوية للأفرقاء الأساسيين الذين يقررون حصصهم ويحددون مقاعدهم ويسمّون وزراءهم ويملكون فيتوات فتاكة. مذذاك أضحى من الطبيعي تحوّل اتفاق الدوحة مرجعية إدارة النظام اللبناني، وتفريخ الأعراف في معظم الصلاحيات الدستورية التي نصّ عليها اتفاق الطائف وأُهمِلت بالممارسة.
بات على رئيس الحكومة، وكل داخل إلى السرايا، أن يأخذ في الحسبان أولوية الاستقرار السنّي - الشيعي، أولاً وأخيراً، على تطبيقه صلاحياته الدستورية. بل كذلك على كل موقف سياسي يُعرّض هذا الاستقرار للانهيار، بما في ذلك سلاح حزب الله في مرحلة أولى، ثم تدخله في الحرب السورية في مرحلة لاحقة.
على نحو مثير للانتباه، وضع اتفاق الدوحة الصلاحيات الدستورية وسلاح حزب الله خارج الخدمة.
الرؤساء السابقون الثلاثة أبناء جيل اتفاق الدوحة
بعد خروج السنيورة من رئاسة الحكومة وإيصاد أبوابها في وجهه منذ عام 2009، وكان أول من دشّن في ثانية حكوماته (2008 - 2009) الأعراف الجديدة المنبثقة من اتفاق الدوحة، وجد الرئيسان اللذان خلفاه، ميقاتي وسلام، نفسيهما في موقع مماثل، أسيرَي الأعراف تلك. وجود 10 وزراء لعون كرئيس لتكتل التغيير والإصلاح، ناهيك بحليفه حزب الله، كان كافياً في أي وقت لتعريض حكومة ميقاتي لمصير التي سبقتها برئاسة الحريري عندما أطاحها الثلث+1. كذلك شكا سلام مراراً، إبان الشغور الرئاسي الطويل، من عجز حكومته عن اتخاذ قرارات أساسية، في ظل انتقال صلاحيات رئيس الجمهورية إلى مجلس الوزراء وكالة.
كل من الرؤساء الثلاثة السابقين وقف ضد تسوية 2016، وضد انتخاب عون رئيساً للجمهورية على وفرة الأسباب التي ضمّنها الحريري في تبريره خياره هذا، وكان السنيورة وسلام نائبين في تياره. على مرّ السنوات الثلاث المنصرمة من ولاية عون، لم يتردد أي منهم في تعداد تحفظاته عن الطريقة التي يدير بها رئيس الجمهورية الحكم، بيد أنهم أبصروها من باب الافتئات على صلاحيات رئيس مجلس الوزراء، على أن الحريري ضحية هذا الاعتداء، فيما الرجل شريك كامل في تسوية 2016، متقبّلاً مقتضياتها. لم يشكُ مرة من رئيس الجمهورية أو اصطدم به، أو تذمّر حتى، وعدّه على الدوام الوعاء الذي يستوعب بعض خلافاته العابرة مع الشريك الآخر العملاني في التسوية، صهر الرئيس وزير الخارجية.
كلاهما، السنيورة رئيس الحكومة آنذاك والحريري زعيم الغالبية النيابية، كان في صلب مداولات اتفاق الدوحة ووقّعا مع الأفرقاء الآخرين على المعادلة التي أرساها، وهي إحلال الاستقرار محل الصلاحيات، من ثم أعرافها المحدثة. في ذلك الحين كان ميقاتي وسلام خارج البرلمان.
سواء رمت زيارة الرياض إلى تحرّك ذي وجه إقليمي يوحي بتصويب التوازن السعودي - الإيراني في لبنان، أو استعادة المملكة دورها التقليدي المؤثر، إلا أن خوض الرؤساء السابقين في الصلاحيات الدستورية لرئيس مجلس الوزراء والإصرار عليها في الممارسة، وعلى دوره، يصبح غير ذي أهمية ما دام صاحب الأمر راضياً، لم يشكُ ولم يتبرّم بعد من تسوية 2016.